عبده الأسمري
العلاقة بين التمني والانتماء رابطة وجودية.. تتعلَّق بكينونة الإنسان وكيان البشر.. في ظل تباعد الشعور بين التوقّع والواقع.. وعندما يرتبط الأمر بالثقافة فإن هذه الحالة مرحلة من اندماج السلوك بالمسلك.. ودمج الإحساس بالاستئناس في ترابط يمثِّل دهرين من التعايش أحدهما للثبات والآخر للتحول.
الإنسان بطبيعته الماكثة في عمق الفطرة والثاوية في أصل البراءة والتي لم تلوّثها شوائب محطات العمر في مراحل حياتية لاحقة يميل إلى الثقافة كعنصر من عناصر التعلّم والتبصّر والتفكّر والتدبّر وهي سمات إنسانية تبدأ مع الفرد منذ لحظات التمييز الأولى ومع إضاءات التحفيز المثلى والتي تتجلّى بوادرها منذ تعلّمه «حروف الهجاء» واستعلامه عن «وصوف» الكتابة..
للإنسان مع الثقافة اتجاهات عدة؛ فهنالك من ورث الثقافة من أجواء عائلية أو مواريث أسرية.. فترجح كفة التربية الأدبية لتكون نوعاً من الاكتساب الأسري وتتعالى صفة التنشئة الثقافية لتشكِّل وقعاً من الكسب الاجتماعي.. فتتشكّل «الشخصية الثقافية» ويبدأ المشروع الثقافي البشري تحديد اتجاهاته منذ الطفولة الأمر الذي يحدد «هوية» عمر بأكملها يكون فيها «الأدب» مهراً للنجاح و»المعرفة» جهراً للفلاح.. وصولاً إلى المأمول والمرتجى والمستهدف.
وهنالك من تتجه آماله وأمنياته وأحلامه إلى صياغة ملامح هويته «الذاتية» لتقترب من الثقافة وفق المعطيات الشخصية والمهارات المعرفية والمؤشرات التي توفرها مسارات التعليم ودروب التعلم فيظل الإنسان حينها «كائناً مكافحاً» يبحث عن «كيان مأمول» فتأتي العزيمة كرهان رابح للظفر بالأمنية الواعدة والتي تتبلور في هيئة ثقافية تبرز دور الأمنيات الواقعية في صناعة الحقائق المتوقعة,
تشكل «العادة» لدى المثقف وجهاً من وجوه «الارتياح» وتمثّل «الطقوس» مواد خاماً لإنتاج الأماني المرتبطة بالبحث عن المعرفة واللهاث وراء الثقافة واللوذ بالأدب والتلذّذ بالكلمة والإعجاب بالحرف والاستمتاع بالعبارة والدهشة باللفظ والرضوخ للإبداع والتسلّي بالنص والتغنّي بالكتابة والتمعّن بالمتن مما يخلق لدينا منظومة من أبعاد الإحساس النفسي والحس السلوكي بالثقافة.
للثقافة بصائر عدة تكبر مع الإنسان المتيم بها فنجده جائلاً بين فصول المعارف مائلاً نحو أصول المشارف التي تعيده لأصل كينونته الأصلية التي تبحث عن الإجابات لإشباع غرور الفضول الموضوعي القائم على حب الاستطلاع وعشق الاطلاع وصولاً إلى تشكيل السلوك الثقافي في القول والفعل وسط التزام أًصيل برقي التساؤل واحترام نبيل لوعي التكامل.
تنمو بصائر الإنسان وتعلو وتتسامى متى ما كان صديقاً للكتاب ورفيقاً للقلم وقريناً للقراءة التي تعد أدوات مثالية لصياغة مشروع «المثقف» وينابيع باذخة لسقاية فكر «الأديب» ومن ذلك تبدأ أولى خطوات «الدرب الجميل» الموصل إلى بر الإمتاع والمؤدي إلى شاطئ الإبداع.
حينما تكبر أبعاد البصائر نحو آفاق الثقافة تأتي الزوايا منفرجة نحو الابتكار والتطوير والتجديد وحادة أمام الانغلاق والتجمّد والجمود فإن الإنسان على مواعيد مكلّلة بالابتهاج مجلّلة بالإنتاج.. زاخرة المعاني فاخرة الأماني..
هنالك فرق شاسع وبون واسع بين إنسان ارتبط بالثقافة وجدانياً وفكرياً وسلوكياً وبين آخر اتخذها كغطاء لتلميع شخصيته أو تبجيل ذاته.. شتان ما بين الحالتين، فالأولى شخصية واءمت بين المفهوم والسلوك وتعايشت معاه في حالة شعورية من الحس المعنوي والإحساس الذاتي الذي يكون نتاجهما «الفكر» ومصيرهما «المنتج»، أما الثانية فهي لا تعدو سوى التباس بين التخيل والواقع يكون دوماً في المجال المؤقت الذي لا يلبث أن يظهر الزيف..
تسهم الثقافة في تحديد مصائر الإنسان نحو النهل من معين المعارف بمقادير تشبع الروح وتغذي النفس حتى يمتلئ الوجدان بغنائم البحث ومغانم النقاش وصولاً إلى تحقيق الأهداف المرتبط ببصائر أولى بدأت بالتجلّي في سماء الارتباط بين الأمنية والمهمة ونمت في ظل رعاية خاصة لاحترام الحرفة وتقدير المعرفة.
تتكامل بصائر الثقافة مع مصائر المعرفة في تضامن يصنعه الإنسان الواعي المثقف الذي اتخذ من الإبحار في عوالم الأدب والتنقيب في خزائن الوعي سبيلاً إلى تحقيق المراد وتوظيف السداد في رسم خارطة المستقبل بخطوط واضحة «المعالم» في متون «الأثر» وشؤون «التأُثير».