أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
قال صاحبي اللدود (ابن أبي الآفاق التراثي)، وما انفكَّ يناقرني في شأن النَّحو العَرَبي:
- القضيَّة الأولى والأخيرة في إمبراطوريَّة النُّحاة التاريخيَّة تتمثَّل في صعوبة متونها، التي هي منبع صعوبة النَّحو، وقد استعصَى علاجها أكثر من استعصاء وضع حدٍّ اليوم لوباء «كرونا». ذلك لأنها تأتي مُجمَلةً، متداخِلةً، وبلغةٍ عتيقة، واصطلاحيَّة، على الطريقة القديمة. وقد استمرَّ المسلسل إلى العصر الحديث، وما زال، ويبدو أنه سيظل. فليلطف الله بطلبة لغتنا العَرَبيَّة، الذين يكرَّهون فيها ويُصرَفون عنها، بصناعة النُّحاة المتوارثة تلك، التي لا يحبُّون تطويرها ولا المساس بها بنقد!
- كيف استمر حديثًا؟
- انظر، على سبيل المثال في ميدان «الصَّرف»، كيف «حاس» (الشيخ أحمد الحملاوي، عفا الله عنه) كلامه في كتيِّبه «شذا العَرْف في فَنِّ الصرف»، ليُدِيخ وراءه الطلبة، حتى إذا داخوا، احتاجوا إلى مصباح (علاء الدِّين)، ليبزغ عليهم منه شارحٌ هُمام. جاء في موضوع (الفعل الثلاثي المجرَّد): «وعينه إمَّا أنْ تكون مفتوحة، أو مكسورة، أو مضمومة، نحو: نَصَرَ، وضَرَبَ، وفَتَحَ، ونحو: كَرُمَ، ونحو: فَرِحَ، وحَسِبَ.» فأين ترتيب الأمثلة من ترتيب الحالات: مفتوح، مكسور، مضموم؟ لا يهمُّ، وليضرب الطالب رأسه في أقرب جدار!
- أ تواصَوا به؟! فقد رأينا مثل هذا التخليط الترتيبي من قبل في «شذور الذهب»، لـ(ابن هشام)!
- بل هم قومٌ لاهون! وإليك أمرًا آخَر. هو، مثلًا، أنَّه يُدرِج (لَبُبَ، يَلْبَبُ) في باب (فَعُلَ، يَفْعُلُ)، ثمَّ يُعقِّب: «والمضارع تَلَبُّ بفتح العَين لا غير!» فما دام بفتح العَين لا غير، فلا يندرج في هذا الباب: (فَعُلَ، يَفْعُلُ)، وكان حقُّه أن يُورَد في باب (فَعِلَ يَفْعَلُ)؛ لأنَّه يَرِد بكسر العَين: لَبِبَ يَلْبَبُ، ويشار هناك إلى ورده بضمِّها أحيانًا. أو أنْ يُجعَل الفعل في بابَين، حسب لُغتَيه، وإنْ قَلَّت إحداهما: باب فَعِلَ يَفْعَلُ، وباب فَعُلَ يَفْعَلُ. فلقد أوردَ بابًا قائمًا بذاته هو باب (فَعِلَ يَفْعِلُ)، وأدرَج فيه ما ذكرَ أنَّه قليلٌ في الصحيح، كثيرٌ في المعتلِّ، مثل: حَسِبَ يَحْسِبُ، بمعنى: «ظَنَّ»، والكثير المسموع: حَسِبَ يَحْسَبُ، بفتح السين، وكذلك: نَعِمَ يَنْعِمُ. أفلا اتبع منهاجًا واحدًا مع الحالات المتعدِّدة؟!
- أي أنَّه فوق صعوبة علم النَّحو والصَّرف، فإنَّ مؤلَّفاتهما حافلةٌ باضطراب التأليف، وعدم الدِّقَّة في التصنيف؟
- كَذا.. فَليَجِلَّ الخَطْبُ وليَفدَحِ الأَمْرُ ... فَلَيسَ [لنَفْسٍ لَم تَفِضْ رُوحُها] عُذْرُ!
وكذا فقد أورد أحد عشر فعلًا، تُكْسَر عَينها في الماضي، ويجوز الكسر والفتح في المضارع، زاعمًا أنَّه لم يَرِد في اللُّغة غيرها! ونسي الفعل (نَعِمَ يَنْعِمُ/ يَنْعَمُ)، الذي سبق أن ذكره هو، قبل ثلاث صفحات.
- وأين الشرح والتحقيق؟ أم أين التنقيح والتدقيق؟ أم أين التعليقات والحواشي؟! لقد كان القدماء، إبَّان القرون الوُسطى، يتولَّون شرح معمَّياتهم، التي إنَّما عَمَّوها لكي يشرحوها، كما أريتنا في مساقٍ سابق. وبعض العمَى أهون من بعض!
- ذلك كان أيَّام الوِراقة والمخطوطات. ولكن منذ أن ظهر مخبز المطابع، اتَّسعت التجارة، واضطرم الجَشَع، وقلَّت القراءة والمراجعة. على أنَّ العَرَبيَّة- من قبل ومن بَعد- لهجاتٌ، كما قلنا مِرارًا، من التكلُّف افتراض ضبطها بصرامةٍ، في قوالب جامعةٍ مانعةٍ، وإنْ حرص أهل اللُّغة. ولم يُغْنِ عنهم خلط النَّحو بالمنطق؛ من حيث إنَّ مَنْطَقَةَ ما لا منطِق رياضيًّا له غير منطقيٍّ أصلًا.
- وماذا بعد؟
- من مصطلحات صاحبنا الحملاوي الملبِسة قوله، في «فصل في معاني صيغ الزوائد»، بأنَّ للهمز «معاني» عشرة حينما يدخل على الفعل. والحقيقة أنها (وظائف) للهمز وليست بمعانٍ له. أي أنَّ الهمزة تُكسِب الفعل تلك المعاني، كالتَّعدية، والصيرورة، والمصادفة، والاستحقاق، وليست بمعانٍ للهمز نفسه.
- وماذا بعد؟
- قل: ماذا قبل؟! خذ عندك كلمة (أفلس): يوردها، رحمه الله، في معنى: صار ذا فُلوس! وأيُّ طالب، مفلس أو غير مفلس، سيضرب هنا أخماسًا بأسداس. وهذا من تعمُّد الإغراب والإلباس على الناس؛ لأنَّ المشهور أنَّ وظيفة الهمزة هنا للإزالة، فأفلس أي: زالت فلوسُه. وعليه الحديث النبوي: «أتدرون مَن المُفلِس...». لكنَّه، كما قلتُ لك، حِرص هؤلاء على قلب دماغ القارئ، بالشواذِّ وغرائب المخلوقات. وإنْ كانت للهمز في هذا الفعل وظيفتان، فلا بأس، وكان يجب أن يتوقَّف المؤلِّف فيوضح، بَيْدَ أنَّه لا يأبَه. بل لقد كان ينبغي أن يورد الهمز في وظيفته المشهورة عن العَرَب، أوَّلًا، ثمَّ يضيف النادر. وهذا ما نعنيه بأنَّ هؤلاء مَرَدُوا على الإغراب، والاستمتاع بلَيِّ أعناق الكلام، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا؛ من حيث لا يُحِبُّون أن يكون ما يطرحون سهل التناول، ولا أنْ يفهمهم القارئ بيُسر، بل لا بُدَّ أن يصدموه بما لا يعرف، بل بما يناقض ما يعرف، وربما تفضَّل أحدهم عليه بعد أن يُصرَع بالشرح لاحقًا، إنْ بقي في العمر بقيَّة، وإلَّا بقي الأمر معلَّقًا. تلك هي اللعبة وأصولها؛ كي يصبح ما يتعاطون عِلمًا غامضًا، عسيرًا، مهيبًا، يتطلَّب تدخُّل جهابذتهم للإسعاف، جيلًا بعد جيل!
- قد يقول لك مدافعٌ عن الأشخاص، وممجِّدٌ للأئمة- وما أكثرهم!- لا عن النحو عينه ولا عن اللغة العَرَبيَّة: تلك حالاتٌ واردةٌ في أيِّ كتاب. والكمال لله وحده.
- وهذا حقٌّ يراد به باطل. لأنَّ هذا يحدث في ميدانٍ يُدَّعَى فيه العِلم الرياضيُّ الدقيق، والمحاسبة على الحرف والحركة ونظام الجملة. على حين تلحظ هنا اختلالًا منهاجيًّا في ضبط التأليف في أيسر صوره. ولا تقلُّ الشروح والحواشي عن المتون التواءً وغموضًا في معظم الحالات، فضلًا عن تشعُّبها وتشريقها وتغريبها. ثمَّ إنَّ ما ننتقده في تلك الكتب ظاهرٌ لكلِّ متصفِّحٍ ناقد، وإنْ لم يكُ متخصِّصًا. ولولاه، لما طالت الشروح، والتعليقات، والحواشي، وحواشي الحواشي، والجدال والصراع. وإنَّما هدفنا إصلاحها، إنْ أمكن ولزم الأمر، أو تجاوُز ما تجاوزه الزمن منها.
- رحم الله (يزيد بن الحكم الثقفي، -105هـ= 723م)، الذي قال واصفًا هذه المعمعة، ومنذ اندلاعتها الأُولى:
يَصُدُّ الفَـتْرَخَـانِيُّـوْنَ عَنِّي
كما صَدَّتْ عَنِ الشُّرَطِ الجَوَالِـيْ
إذا اجْتَمَعُوا على أَلِفٍ وباءٍ
فيا لكَ مِنْ قِتالٍ أو جِدالِ!
- الفَتْرَخَة: المبالغة في الشيء والتعمُّق فيه. بل أقول: لولا ذلك كلُّه لما كانت خرافة الصعوبة الاستثنائيَّة التي توصف بها اللغة العَرَبيَّة، والتي ينفيها- رغم كلِّ شيء- تعلُّمُ غير العَرَب العَرَبيَّة أسرع من لغاتٍ أخرى وأسهل، وتفوُّقُهم على أبناء العَرَب.
- السؤال: لماذا لا تعاد تلك المواد النَّحويَّة والصَّرفيَّة في مؤلَّفاتٍ حديثةٍ لطلبتنا في الجامعات ولغيرهم، وبوسائل بيانيَّةٍ معاصرة، من خلال إبداعاتٍ تناسب هذا العصر، كما نجد في لُغاتٍ أخرى؟!
- إبداعات؟! مسكينٌ أنت، وطيِّب! لن يحدث، يا صاحبي؛ لأنَّه لو حدث- لا قدَّر الله!- لربما أُقفِلت أقسام النَّحو والصَّرف في بعض الجامعات العَرَبيَّة أو كلِّها، وبارت سلعة أساتذتها! لذا لن تجد سِوَى الدفاع المستميت عن ذلك التراث، وإعادة طباعة كتبه، والتمسُّك بها، بعجرها وبجرها، مع محاولة شرحها، في أحسن الأحوال، كرًّا وفرًّا، ليتأبَّد الدوران حولها، كما هي، كأنَّها نصوصٌ مقدَّسة، صالحةٌ لكلِّ زمان ومكان!