د. فهد بن علي العليان
يعرف جميع القراء المقولة التي تتردد دائماً: إن البدايات تؤثر في النهايات، حيث يلحظ المربون والآباء مدى تأثير بدايات أبنائهم في نهاياتها، وأنا كثيراً أتأمل هذه المقولة، وأجد عليها شواهد رأيتها وعاصرتها.. وهنا أحدثكم أيها القراء عن شخصية عاصرت بداياتها العلمية والثقافية منذ أن تقابلنا عام 1401هـ، في متوسطة الإمام أحمد في مدينة الرياض.
في تلك الأوقات كان الزميل والصديق (فهد بن محمد الحربي) هادئاً مؤدباً أنيقاً منظماً دقيقاً، إذ كان يكتب بخط جميل ملفت للمعلمين والزملاء، ثم إنه كان جاداً في دراسته حريصاً على تأدية الواجبات، وربما -وأرجو ألا أكون مخطئاً- أنه لم يتعرض لتأديب المعلمين إلا قليلاً.
كنت طالباً جديداً في الحي والمدرسة، وهو له أقران وأصدقاء انتقلوا معه من المرحلة الابتدائية، لكن سرعان ما قويت علاقتي به وتوثقت، بل انتقلت من داخل أسوار المدرسة إلى دهاليز البيوت، فقد فتح داره وقلبه لنلتقي أوقاتاً متكررة، وإن نسيت فلا أنسى أننا شاهدنا مباراة الكويت وفرنسا في كأس العالم 1982 في مجلس بيتهم؛ إذ كان (أبو محمد) متابعاً للشأن الرياضي منذ صغره، شغوفاً بمتابعة الأحداث الرياضية في الصحف والمجلات، بالإضافة إلى متابعة المجلات والصحف بمختلف اهتماماتها.
وهنا أريد أن أحدثكم عن بداياته التي صنعها، لنرى اليوم بعض ثمارها، لقد كان منذ بداياته شغوفاً بالقراءة والمطالعة، متفوقاً في التعبير والكتابة والخط، ولا أدل على ذلك من أنه كان يتابع الصحف يومياً، ويقرأ المجلات ويشترك في بعضها، بل أتذكر جيداً أنه -مشكوراً- كان يطلعني على بعض الدوريات والمجلات، بل كان يعيرني أعداد مجلة (الصقر) الرياضية التي كان لها شأن في تلك الأيام، وكان هو أحد متابعيها بانتظام، بل إنه راسل القسم الرياضي -آنذاك-، ثم جاءه الرد من أيمن جاده، وهو لما يزل طالباً في المرحلة المتوسطة.
إن ما أريد قوله بعد مضي أربعين عاماً، إن السلوك والعادات والهوايات التي كان ينتهجها (صاحبنا) أثرت كثيراً في مستقبله بشكل واضح، فقد بقي -عندما انتقلنا للدراسة في ثانوية القادسية- متميزاً ومحافظاً على قراءاته وهواياته المتنوعة بهدوء، بعيداً عن ضجيج كرة القدم داخل المدرسة وخارجها كما يفعل غالبية شباب تلك الأيام.
ومما أذكره وأتذكره جيداً وأتحدث عنه دائماً مع رفيق الدراسة (أبو محمد) أن في حارتنا تلك السنوات 1401- 1406هـ مكتبة يعمل بها أحد الجيران من (حضرموت) واسمه (مهدي)، وقد كان هذا الرجل من حيث يعلم أو لا يعلم، قد شارك في جزء من التشجيع على القراءة؛ إذ كان يتيح لنا جميعاً قراءة وتصفح المجلات والصحف لمدة طويلة، دون تعنيف أو تضايق، بل كان مرحباً مبتسماً، وليت الأيام تجود بلقائه لشكره وتقديره على أريحيته وطيب قلبه وكرمه.
وبعد أن أنهى صاحبنا المرحلة الثانوية متخرجاً من القسم العلمي محباً ومتطلعاً لدراسة الأدب الإنجليزي، التحق بكلية الآداب ليحقق طموحه ورغباته، وتكر الليالي والأيام، ويستقر في كلية علوم الحاسب الآلي، ليكون أحد الخريجين المتميزين، ثم يلتحق بالعمل في وزارة المالية، وأثناء عمله يحصل على العديد من الدورات المتخصصة، وهو يعمل بكل جد وحماس وانضباط ونشاط.
ولأنه أحد المتميزين، فقد يسّر الله -عز وجل- مواصلة دراسته خارج المملكة، وتحديداً في بريطانيا، ليكمل الماجستير في (التعاملات الإلكترونية)، ثم يواصل دراسة الدكتوراه في (أمن المعلومات للتعاملات الإلكترونية)، ويحقق نجاحاته مع المحافظة على هواياته، خاصة القراءة. وبعد أن عاد إلى المملكة، واصل عمله في وزارة المالية سنوات عديدة مشاركاً في كثير من المؤتمرات واللجان في مجال تخصصه، ثم يستقر به المقام في (جامعة نايف العربية)، إذ يشغل أثناء كتابة هذه الحروف منصب وكيل الجامعة للبحث العلمي، بالإضافة إلى إشرافه على الإدارة العامة للشؤون الإدارية والمالية، آخذاً على عاتقه مع قياداتها تطوير منظومة الجامعة.
هذه بعض بدايات رفيق الصبا وزميل الدراسة وصديق اليوم (الدكتور فهد الحربي)، الذي عاش في صغره هادئاً قارئاً معطاء؛ حيث إنه لم يكن يبخل على من حوله من الزملاء والأصدقاء بالمعارف والمعلومات، كما أنه هذه الأيام يجود بوقته عطاء وإسهاماً علمياً في مجال تخصصه، بالإضافة إلى أنه يتواصل مع زملائه ومحبيه بكل ترحاب وسعة صدر.
(البدايات توحي بالنهايات)