د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
يدرس سومايلا في شعبة (علم الصرف3) التي أدرّسها في هذا الفصل الدراسي 1442هـ، وكان قد درس (علم الصرف1) معي سابقًا، وأثناء التدرّب على الظواهر الصرفية أظهر معرفة دقيقة لتلك الظواهر وتحليلها، وكنت حين أستيئس من محاولة الطلاب الجواب أسأله، وهو الملتزم بالصمت حتى يسأل ليتيح الفرصة لغيره، وكان يجيب بما ينبغي أن تكون الإجابة.
هذا طالب من (مالي) الإفريقية درس العربية والفرنسية في ساحل العاج وبعد المرحلة الثانوية تهيأ له أن يلتحق بمعهد اللغويات العربية بقسم اللغة والثقافة في جامعة الملك سعود. وهذا الطالب واحد من طلاب عرفتهم من البلاد الإفريقية والآسيوية امتلكوا ناصية اللغة العربية وأتقنوا قواعدها من غير أن يجدوا عنتًا ومشقة كما يجد أبناؤنا، لست أنسى الطالب الباكستاني في أول شعبة نحو درستها حين عينت أستاذا مساعدًا في القسم (1405هـ) هو (محمد طاهر باغ)، كانت إجاباته في الاختبارات مطابقة لما أريد، واليوم حين أردت وضع إجابة نموذجية للاختبار الفصلي الأول وضعت إجابة سومايلا.
ليس العيب في اللغة العربية ولا في نحو العربية، وإنما العيب في المتلقي وفي طريقة التلقي، والأمر الذي لا ينتهي منه العجب أنّ من يحس ضعفًا في اللغة وسوء استعمال لها يعود باللائمة إلى النحو والنحويين، وهم يلومون بذلك غيرَ مُليم، فأما النحو فهو نظام اللغة وضع بوصفها، وهو نحو شامخ تلقفه المتعلمون بالقبول طوال القرون الماضية، فأبدعوا في تلقيه والصدور عنه، ولست أعني أنه كاملٌ الكمال كله بل هو كغيره من الأعمال البشرية، اجتهاد يمكن أن يناله الضعف أو الخطأ أو النقص، وهي أمور يمكن أن توصف بها كل أنحاء اللغات بل كل العلوم التي ما تفتأ تجد ثورات تجديدية، كل علم بحسبه. وأما النحويون فليس لهم سلطة على أحد فهم سدنة اللغة ونظامها وإنما يبذلون النصيحة وينبهون على مواطن الزلل، وهذا ما يفعله كل مزاول لعلم من العلوم.
كثير من المثقفين واللسانيين المستغربين يزرون على النحو كونه وضع منذ قرون قديمة، فهو في زعمهم لا يلائم اللغة المتطورة، وهو كلام إن ساغ انطلاقه على لغات غير العربية فليس بسائغ انطلاقه على العربية؛ إذ هي لغة رسالة عالمية مستمرة، وهي لغة متصل قديمها بحديثها، وأكثر ما ناله التغير فيها محتوى المعجم، وأما البنية الصوتية والصرفية والنحوية فلم ينلها من التغير ما يطّرح من أجله النحو، بل هو تغير يدعو إلى تجديده وإصلاحه، ومهما يكن هذا التجديد والتغيير سيظل الفاعل مرفوعًا بعد فعله، والمفعول منصوبًا وستظل (كان) ناصبة خبرها و(إن) ناصبة اسمها، وكل هذا الأحكام من أشهر أحكام النحو وأوضحها؛ ولكن الناس على معرفتهم ذلك كل المعرفة يخطئون في استعمالها؛ فالقضية إذن ليست صعوبة في القواعد؛ ولكنها غياب تعلم لغة وتدرب عليها، سل طالبًا تخرج في الجامعة: كم ساعةً قرأت قراءة جهرية؟ وسله كم كتبت من إنشائك؟ فستجد الخلل إن سألت، وسيتبين لك أن تعلم اللغة وعلومها كغيره من العلوم يقتضي التعب في تحصيله والصبر على ذلك، وهو أمر فعله سومايلا وأمثاله وعزف عنه أبناؤنا.
ويعيب بعض الفضلاء تقرير كتب نحو قديمة كشرح شذور الذهب ونحوه؛ ولكنه لا يحدد المرحلة التي قرر فيها ولا الطلاب الذين قرر لهم؛ إذ الغالب أنهم طلاب العربية المتخصصون الذين عليهم الاطلاع على هذا الكتاب وغيره من الكتب الموجهة للخاصة من طلاب النحو وليست موجهة للمثقفين بعامة.
وربما وجدنا دعوة إلى إعادة وصف العربية الحديثة يختلف عن وصف العربية القديمة، ولكن من يدعو إلى ذلك لا يبين أي عربية حديثة هذه، فالعربية الحديثة تتلون في كل قطر عربي بما يسود في ذلك القطر من عادات كلامية، ويمكن القول إن هذه اللغة إما موافقة لأحكام اللغة العربية القديمة صرفًا ونحوًا فما الجدوى من الوصف، وإما مخالفة لتلك الأحكام فهي تقتضي التصحيح لا التسليم بعوارها.
ولا أظن آخر الأمر أن إقصاء النحويين وإلغاء النحو هو ما يعود بالخير على اللغة واستعمالها، ليستعملها أصحابها من غير حرج حتى يذهب كل مستعمل وفاق ما يألف وما يسود من عادات نطقية ستبت الصلة بين هذه اللغة وتراثها.
إن السبيل الصحيحة لعلاج مسألة اللغة ما يأتي:
- اعتماد سياسة حكيمة تسعدها إرادة أمة.
- أن تجعل لغة للعمل وللتعليم.
- أن يزداد اهتمام الإعلام بها.
- أن تقرب الفجوة بينها وبين عامياتها.
- أن يعاد تأهيل المجتمع لاستعمالها في حياتهم بشجاعة ورغبة تلائم هويتهم.