منذ أن وطأنا هذه الأرض ونحن في دوران مستمر حول أنفسنا ، نريد أن نعمر مستعمرتنا الفكرية بلا هوادة، نتطارد مع الزمن في لعبة التخبي من عبث الحياة، والتقصي عن أدوار تليق بنا في هذه المستعمرة الفلكية ، فنطلق العنان لخيالنا بأن يشاطرنا أفكارنا وتطلعاتنا المستقبلية، كموجة تساعدنا على تصفية قنوات عقولنا من كل شوشرة نمطية قد تعيق وضوح الصورة واعتقال الصوت، نجد أنفسنا تصارع ذبذبات الفكر وموجات العقل بحثاً عن متنفس ومضيق هادئ على حدود الزمن وجغرافية العمر.
الخيال وما أدراك ما الخيال..؟
نصنعه ولا نلمسه، نحيكه ولا نلبسه، مجرد تركيبة ومزيج من الحلم والأمل توضع بمقادير متناسقة فينتج عنها واقع مدهش ، ونجاح فادح.
يقول فيليكس جاكبسون في كتابه (فكر تصبح غنياً): « الخيال هو المشغل أو الورشة التي تُصمم فيها كل الخطط التي يضعها الإنسان لإعطاء الدافع أو الرغبة شكلاً وإطاراً ومساراً تنفيذياً من خلال الوظيفة التخيلية للعقل «.
عن طريق وظيفة الخيال يتمكن الإنسان من صنع نفسه ، صنع حلمه والتمكن من تسلق عتبة النجاح والوصول لنوافذ الإنجاز بمجرد تبنيه الأفكار الإيجابية التي تساعده على التخيل الإيجابي، ليرى نفسه منتصراً وعلى بضع خطوات من هدفه المنشود.
لن أنسى ذلك الشتاء القاسي حينما وبَّختني رفيقتي وأنا على حافة الكون من اليأس والانهيار الروحي ، حينما قالت لي: الخيال سيقتلك ويحول حياتك إلى ألم مجحف، فقد ارتطمتِ بحيطان الواقع وها أنتِ تتجرعين ملاعقه المرة بوجعٍ وحسرة مكلومة .
لا أخفي على نفسي أنني بالغت في تخيلاتي وارتطمت بواقعي دون أدنى مقدمات ، لكن ومع كل ذلك الألم المضني لم أتوقف ولو لدقيقة عنه فهو رفيق لا يمل ، وصاحب لا يكدر ولا ينأى عن ملازمتي ، هو من صنعني وحوَّل أحلامي إلى حقيقة أشهدها أمامي ويشهدها الجميع .
بمجرد التخيل نجد أنفسنا نضع حجر الأساس لفكرة وليدة، فنسقيها من وابل الحقيقة قطرات باردة كي تنمو بمعنى وتنضج بمضمون حر ، ونتركها لحين موسم الحصاد فنقطفها كثمرة عانقت فصول
الرشد ، فتتحول كل تخيلاتنا التي يظنها الغير مستحيلة لواقع ملموس .
فكل ما نحن فيه الآن من تقدم وتكنولوجيا كان يوماً من الأيام مجرد خيالات لازمت أذهان المبدعين آنذاك، كانت بدايتها خيالاً ثم فكرة ثم رغبة صادقة فإصرار كبير إلى أن تمكنوا من الوصول لمرحلة التنفيذ وأبواب النجاح .
ها نحن اليوم نستلقي على الريش وننعم بأحدث الاختراعات والإبداعات، كانت بدايتها شرارة من خيال واسع تفاقمت واندلعت حتى شبت نيران هذا الإبداع في العصور القديمة وصولاً لعصرنا الحاضر.. الخيال الواسع يتيح لنا إمكانية معرفة أمور تبدو بسيطة لكنها قد تكون مفتاحا لإنجازات وأمور عظيمة. يقول هنري وارد بيتشر: «الخيال سر وأساس الحضارة».. وأكبر مثال على معجزات الخيال، التفاحة التي سقطت أمام نيوتن ليستعين بخياله الواسع ويعرف سبب سقوطها .. وأديسون الذي حوَّل خياله إلى شمس مشرقة لا تغيب عن حياتنا إلا بإرادتنا .. وبيكاسو الرسام المشهور لولا تخيلاته لما أبدع في تحريك ريشته واستوقف العابرين من البشر لتأملات مطولة أمام لوحاته وكأن غموضاً يسكنها ، وكثيرون غيرهم ممن خاضوا أطروحات الخيال ووصلوا لمشوار النهاية ..
الخيال سحرٌ مباح سخِّروه لصنع قوارب نجاة تحملكم لمرافئ أحلامكم ومنارات مستقبلكم..!
** **
- وفاء آل منصور