في الكتاب السابع من «الجمهورية» يطرح أفلاطون أسطورة الكهف، ويقول لنتخيل أنَّ مجموعة من الناس مسجونة داخل كهف تحت الأرض، والأغلال تربط أجسامهم بحيث لا يستطيعون النظر نحو الخلف، ورؤية النور، فيحدقون فقط نحو الجدار الموجود أمامهم، وفي هذا الجدار يشاهدون ظلال تماثيل بشرية وحيوانية تقلد الحياة الواقعية، ولأنهم سجناء منذ الطفولة لديهم علاقة ود وتقدير للكهف، بل ويُخيَّل لهم أنهم يمتلكون الحقيقة عبر رؤية الظلال التي تُعرض على الجدار الموجود أمامهم. وزُبدة الأسطورة هي اكتشاف الفرد قيمة معرفة الحقيقة بعد الخروج من الكهف، ومعايشة الحياة الواقعية كما هي.
جاءت هذه الأمثولة التي تشبه كثيراً صالات عرض الأفلام قبل ظهور السينما بما يقارب 2300 سنة، وفيها يطرح أفلاطون فرضية أن هذه الظلال ليست إلاَّ بروباقندا بالمعنى الحديث؛ لذا فيستحيل معرفة الحقيقة برؤية الظلال التي تعرض الحياة باستخدام الضوء على شاشة موجودة أمام مجموعة من الناس، لأنها ليست الحياة نفسها، فتصبح غايتها تضليل العقول. وبالمقابل، لو قمنا بعمل مقارنة بسيطة بين السينما وأسطورة الكهف نستنتج أولاً أنَّ زوار السينما أحرار لأنهم اختاروا بمحض إرادتهم الدخول لصالة العرض والتحديق في الفيلم تماماً مثل الذين اختاروا بمحض إرادتهم الخروج من الكهف. ونستخلص ثانياً أنَّ رؤية الحياة كما هي لا يكفي لكشف أسرارها دون وجود طُرق تساعد الفرد لإدراك معاني القيم الكبرى.
بالتالي غاب عن أفلاطون نقطة مهمة، هي أن تجربة العيش في الكهف هي التي ساعدت الأفراد الذين خرجوا منه للوصول للحقيقة، وليس الخروج فقط، وذلك لأن لديهم تجربة سابقة دخل الكهف، وعندما وصلوا للحياة كما هي خارج الكهف استطاعوا أن يدركوا الفروقات بين الاثنين؛ لذا لو لم يسكن الفرد في الكهف لما استطاع أن يدرك الاختلافات بين التجربتين ببصيرة عميقة. وهنا من باب المشاغبة كفرضية عكسية نقول ماذا لو اختار الفرد الذي لم يسكن الكهف قط الدخول للكهف ورؤية التماثيل التي تعرض على الجدار، أليس ذلك كفيلاً بأن تكون تجربة الكهف وسيلة للتعلم والمعرفة، ولو فقط بإدراك إمكانية التلاعب بالتماثيل لعرض حياة ذات دلالات ومعاني.
أليست فكرة تخيل الكهف في جوهرها هي ضرب من ضروب الخيال، ومحاولة الاستعانة بالخيال لشرح المعاني الكُبرى؟
في فيلم فيتغنشتاين Wittgenstein - 1993 نشاهد لودفيغ فيتغنشتاين الفيلسوف الأكثر تعقيداً بالقرن العشرين، وأحد أهم الفلاسفة على الإطلاق، وهو يهرب من الفلسفة إلى صالات السينما، بينما كانت ممارسة الفلسفة هي العلاج بالنسبة لأفلاطون، ولكن في هذا الفيلم نشاهد العكس، نشاهد السينما كحياة، وطريق النجاة بالنسبة لفيتغنشتاين، حيث يقول: «لطالما أحببت السينما»، ويقول: «تشبه مشاهدة الأفلام الاستحمام الذي يزيل وسخ المحاضرات» التي كان يلقيها عن الفلسفة، في الفيلم لا نشاهد الطريقة التقليدية في عرض السيرة الذاتية، بل نشاهد أسلوباً جديداً يعرض قصة فيتغنشتاين عبر التعبير عن أفكاره بلغة سينمائية. وبسبب غرابة أفكاره، اختلطت هذه الغرابة مع الجو العام للفيلم، فنشاهده منذ الطفولة، ونتعرف على عائلته الثرية جداً، ثم ننتقل لمرحلة دراسة الفلسفة عند برتراند راسل، ثم وصولاً إلى مرحلة كامبريدج ونشر كتبه.
ويقول فيتغنشتاين: «لو تكلم الأسد، فلن نستطيع أن نفهمه»، ويعطي في الفيلم شرحاً وجيزاً لمعنى هذه الفكرة، فيبرر لن نفهم الأسد لأن لغته عبارة عن تجربته الحياتية، فاللغة في جوهرها هي ممارسة جسدية وعقلية معاً، بمعنى حتى لو تكلم الأسد العربية أو الإنجليزية لن نفهمه، وذلك بسبب صعوبة إدراكنا عالم الأسد، وبالتالي صعوبة إدراكنا للمعاني التي يريد أن يقصدها الأسد.
إذن، ربما تكون فكرة السينما بالنسبة لأفلاطون هي عالم الأسد، واللغة الأسدية، التي لم يدركها، ولم يعرف دلالاتها، فبالتالي عجز عن الوصول لمقاصدها.
** **
- حسن الحجيلي