العجيب، أقول: العجيب أني بالندرة الشديدة قد أقرأ كتاباً لغته الأصل العربية يفوق أسلوبه عذوبة آسرة على كتاب (رحلة فريزر إلى بغداد) بالرغم من أنه مترجم، والعربية ليست لغته الأصل؛ إن هي إلا منقولة من المترجم الفنان الآسر البليغ جعفر الخياط!
ما زلت صغيرة جداً لأطلق الحكم الذي سأقوله الآن، لكني سأقوله مقيداً بحد عمري الحالي الذي أكتب به الآن: لم أقرأ ترجمة موسيقية على نحو ما قرأت ترجمة الخياط!
ترجمة موسيقية، كيف يمكن للكتابة أن تكون موسيقية، ترجمة كانت أم لغة أصل؟ إن الكتابة الوحيدة التي انتشت روحي منها هي شعر المتنبي، نشوة تأخذ الروح حيث لا تستطيع أن تأخذها إلى هناك إلا الموسيقى بمفعولها الذي يحرك الروح بما لا تتوافر اللغة عليه لتحريكها، ما تكررت هذه النشوة إلا مع كتاب (يحرقون الحرية) لمحمد بنيس، في أسلوبه الفنان الذي لم يؤتى لأحد من قبله ولا من بعده، بيد أنها نشوة موجوعة؛ لما في كتابه من مكاشفة آلام الكرامة العربية الجريحة، وأخيراً ما إن فتحت كتاب ترجمة الخياط إلا وأشع منه سنا نفذ إلى الروح بكتابته الموسيقية!
بطريقة لست أدري كيف تصير لكنها صارت حين أقرأ كتابته الفنانة تبعث بنفسي مفعولاً على نحو ما تبعثه الموسيقى، فكأني أقرأ كلامه موسيقى مسموعة، ولا أبالغ إذا قلت إني أحياناً أتمايل مع ما أقرأ! وهذا كله لعمري عجب إن كان المكتوب مكتوباً في اللغة الأصل، فكيف به وهو مترجم!
يخيل إلي أنه يحرك بأصابعه الكلمات ويداخلها في بعضها ناسجاً تمام الجملة كما يحرك الموسيقار أوتار الآلة الموسيقية ناسجاً تمام المعزوفة. فهذا هو الخياط يجيء بالكلمة من مكان قصي فيركلها ضربة قوية في نفس القارئ، وما تفتأ أن تتوالى الركلات حتى تستقر قوتها بالنفس امتداداً من قوة الكلام الذي رسمه جعفر الخياط بلوحة بلاغية، في صورة أشد ما للبلاغة أن تكون عليه في الخطاب العادي لا الشعري.
لم أقرأ من ترجماته إلا كتاب (رحلة فريزر إلى بغداد) والحق أني طفت حوله والنفس حائرة ما إذا كانت ترجماته التي تتناول موضوعات غير أدبية - على اعتبار أنه ترجم ذلك النوع الكتابي- على هذه العذوبة الأسلوبية، أم أن السر كامن في الطبيعة الأدبية للعمل المترجم؟ وما ذهبت إليه نفسي أن لو كان مؤلف الكتاب (جيمس بيلي فريزر) عادي الأسلوب الأدبي، فإنه لمن الفن الجميل أن نقله الخياط على هذه البلاغة الآسرة، وإن كان حاذق الأسلوب الأدبي، فإنه لمن الفن الأخاذ أن نقله الخياط على هذه البلاغة العاتية في صعوبتها.
والكتاب عبارة عن رسائل دأب فريزر في كتابتها لزوجه أثناء رحلته إلى بغداد، وأنا على ما في تلك الرسائل من معاينة حكمة السفر والتعرف على الحضارات والجولة في ضواحي بغداد وأنا أجلس في حجرتي - بالرغم من تحفظي على نفسيته الحانقة على العرب -، إلا أن ليس ذلك كله ما أسرني بالكتاب وكأني مسحورة، إن هو إلا أسلوب الخياط البليغ الذي لم أسطع عنه فكاكاً.
مثلما اصطحب فريزر زوجه في ضواحي بغداد عبر وصفه لها في مراسيله، فإن الخياط يصور لنا المشهد وكأننا أمام صورة فتوغرافية تتجلى دقة ألوانها وجودة إخراجها في وصفه البليغ الذي جاء بالكلام على أعذبه، وهذا قبس من الكتاب في وصف مشهد سرب طير نادر:
«وفي أثناء ركوبنا هذا اليوم اصطدنا عدداً كبيراً من الطيور - ولا سيما من الدراج الأسود والرمادي. كما لاحظنا من بعيد كثيراً من الغزلان، لكن الأسراب الكبيرة من الدراج البري التي مرت بنا كانت من أعظم ما رأيت من هذا القبيل إثارة للدهشة والعجب. فكانت هذه الأسراب تأتي كالغمام، على شاكلة الجراد، وكأن أحدها على الأخص، وهو الذي استغرق عدة دقائق في مروره، يكون قوساً من فوقنا يمتد جانباه من الطرفين على مد النظر- ربما كان هذا السرب وحده يحتوي على آلاف مؤلفة من الطيور يشيع وجودها في أواسط آسيا- نوع كبير ونوع صغير، وهذه كانت من النوع الصغير. لكنني لم أرَ هذه الطيور من قبل تجتمع بمثل هذه الأسراب الجسيمة، أو في حالة الهجرة كما كان يظهر مما رأيت»
(على شاكلة الجراد/ يمتد جانباه من الطرفين على مد النظر/ آلاف مؤلفة/ يشيع/ الجسيمة) أساليب وألفاظ كتبها الخياط في نقل النصوص إلى العربية فنقلها نقلاً بليغاً بأسلوب بديع، فنان، ولو كان أقل مستوى مما هو عليه لكان من الوارد أن ينقل هذه المعاني بأساليب عادية وألفاظ سطحية على خلاف الأسلوب الحاذق الذي استوت عليه ترجمته.
وهذا قبس آخر في وصف بنايات بغداد وشوارعها، أترك القارئ يتجول به في رحابها:
«وقد بنيت الأبنية كلها، العامة والأهلية، بالآجر المفخور ذي اللون الأحمر الضارب إلى الصفرة، والحجر الصغير، والزوايا المدورة الدالة على أن معظم هذا الآجر كان قد استعمل عدة مرات من قبل لأنه ربما كان قد أخذ من خرائب أبنية قديمة لتشييد أبنية أخرى بها.(...) وشوارع بغداد، مثل شوارع جميع المدن الشرقية الأخرى، ضيقة غير مبلطة تقوم على جانبيها بوجه عام جدران غفل من أي شيء، إذ نادراً ما تلاحظ الشبابيك مفتوحة على الأزقة والطرق العامة، بينما تكون أبواب الدخول المؤدية إلى المساكن صغيرة حقيرة».
اللون الأحمر الضارب إلى الصفرة. (الضارب) كلمة بليغة- وإن كان في عرف البلاغيين لا توصف الكلمة بالبلاغة- صورت صورة بديعة في تدرج الألوان، ما كانت ستبلغ مبلغها البديع لو ترجمها بأسلوب آخر، كأن يقول مثلاً «ذي اللون الأحمر القريب إلى الأصفر» أو «ذي اللون الأحمر المائل إلى الأصفر» فهذان التعبيران يدلان على فرادية اللون، أما كلمة (الضارب) فتجلت فيها قوة البلاغة اللفظية من جهة، وقوة البلاغة المعنوية في مزج اللونين في آن معاً من جهة أخرى.
لعل (بلاغة الترجمة) من الفتوحات الجديدة في مسلك البلاغة، ومن هنا أوصي طلبة الدراسات العليا في مساق البلاغة الالتفات لهذا الموضوع الأخاذ، لا سيما الترجمة الأدبية منها، على أن يكون الدارس يمتلك اللغتين لكي يتمكن من مفاتيح بلاغة النص وبلاغة النقل.
وجعفر الخياط خير مادة ترجمية أدبية تفتح مجالاً جديداً في الدراسات البلاغية، ومن الجيد أن يلتفت إليه الدارسون في البلاغة لتناول ترجماته في أطروحاتهم الماجستير أو الدكتوراه، وأيضاً -وبلا شك- أي مترجم حاذق فهو أهل لدراسة هذا الموضوع الفني البلاغي.
برافو يا جعفر!
** **
- سراب الصبيح
sarabalwibari@gmail.com