إن من البدهي المتفق عليه أن فلسفة (الإنترنت) قامت في الأصل على كونه مجالاً حراً لا رقيب فيه ولا موجه، حيث إن للجانب النفسي الدور الأكبر في ذلك، والذي يعطي للناس شعوراً مريحاً ومطمئناً أنهم أمام أجهزة صماء، و(روبوتات) لا تدخل للبشر في توجيهها، وبالتالي فإن الناس في حِلّ أن يقولوا ما يشاؤون، وأن يُخرجوا هموم عالمهم الواقعي من خلالها، بأن ينفسّوا عن أنفسهم على أسطح الشاشات الزجاجية الأمينة على الأسرار دون أن يراهم أحد، وهذه هي أكبر ميزات (الإنترنت). ومن البدهي أيضاً القول بأن نقطة الأفضلية والقوة في هذا العالم الافتراضي هي أنه لا يشترط للشخص هوية اسم، ولا بصمة وجه ولا صوت كي يقول ما يريد، فالإنسان بهذا ملك مطلق ذو تيجان لا تاج واحد، ولكن افتراضياً في عالم أشبه بالموازي، وبعيد ونادر أن يكون واقعياً.
وقد كان لظهور الإعلام على (الإنترنت) أثر كبير يشبه نقلة ثوروية في حينها، وبالتحديد على منصات التواصل الاجتماعي، وذلك بمسمى الإعلام (الجديد) أو (البديل)، وذلك كمصطلحات يلزم من معناها أن هنالك إعلاماً قديماً، له شروط لم تعد صالحة، وأنه لا بد من إيجاد إعلام بديل وجديد يتخلص من شروط هذا الإعلام القديم، والذي أصبح قديماً بسبب ظهور شيء جديد يلزم من وجوده أن يكون مختلفاً اختلافاً كلياً، وذلك كما يفترض ويبشّر صنَّاع هذا الإعلام الجديد.
وعلى مدار سنوات تقارب العقدين، ظلت سمعة وسائل التواصل الاجتماعي - وهي قمة استخدامات (الإنترنت) شعبياً- أمريكياً وعالمياً عالية وناصعة، ذلك أنه كان يُنظر لها على أنها منبر لكل من لا منبر له، لا سيما أنه كان لإعلام هذه الوسائط دور كبير في أحداث كبرى وقعت خلال العقد المنصرم في الشرقين الأوسط والأقصى، حيث تم تصوير هذه الوسائط الإعلامية بأنها المجال الرحب المفتوح، وملجأ التعبير الذي لا يوجهه أحد أو يتحكم فيه، ولكن دوام الحال من المحال.
لقد كان العام 2020 ووباؤه المستطير (كورونا) أول أجراس الإنذار على باب إعلام وسائل التواصل الاجتماعي، أو هو ما يمكن وصفه أنه الكسر الصغير الذي لم يُنتبه له في قاع القارب الوحيد وسط أمواج المحيط العاتية، ذلك الكسر الذي ستدخل منه مياه الإغراق سريعاً لا محالة، حيث ظهر ذلك عندما بدأت كبرى منصات التواصل الاجتماعي هذه بتذييل المنشورات والأخبار التي تتعلّق بالمرض وتحديثات حالاته بتحذيرات مختلفة، لا سيما منشورات الشخصيات السياسية على وجه الخصوص، حيث كان ذلك إشارة أن هذه المنصات تتدخل وتراقب وتغربل ما يُنشر. وهذا الأمر في ظاهره يبدو تصرفاً مبدئياً سليماً، وذلك بأن يتم تحذير الناس وتنبيههم، ولكنه واقعياً وفي العقل الباطن للمتلقي يعطي انطباعاً أو شعوراً نفسياً عاماً وعميقاً أن هناك من يتحكم ويوجه ما يُكتب ويُنشر، ويصوغ بهذا العقل الجمعي حسب ما يريد. وهذا نفسه عين المأخذ وذاته الذي كان يؤخذ على وسائل الإعلام التقليدية -إن صحت التسمية- وتسبب أن يبحث الناس عن وسائل بديلة حينها، حيث كان العنوان الأشهر أن إعلام (الراديو) و(التلفاز) وصحافة الورق لم يتخلصوا من ربقة الرقيب الإنسان، ولهذا لا بد من إعلام حر على (الإنترنت)، ولكن الذي ظهر بعد ذلك أن (الإنترنت) هو إنسان أيضاً ورقيب إضافي آخر، وله أو يريد سلطة تمنع وتمنح، وتأذن وتلغي وتلاحق أيضاً، وهذا هو ما فرت منه الأمم سابقاً.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية بدأ الأمر يظهر جلياً في ملاحقة منشورات السياسيين وبعض الحسابات الإعلامية الشهيرة التي تتحدث عن الوباء، وبخاصة من الاتجاه أو الحزب الجمهوري، وعلى رأسهم الرئيس الأسبق (دونالد ترامب)، وذلك على المنصتين الأشهر أمريكياً وعالمياً (تويتر) و(فيسبوك) والمنصات الفرعية العديدة التابعة لهما، حيث بدأت مراقبة منشورات السياسيين حول الوباء وتذييلها جبرياً من قبل إدارات هذه المنصات بتنبيهات حول وجوب مراجعة المعلومات الصحيحة من مصادرها في بادئ الأمر، وذلك في إشارة ضمنية خفية أن منشوراً ما للسياسي فلان ليس موثوقاً، وعليه؛ فإن المنصة بذلك تزكي منشوراً ما وتذم آخر، أو تعطيه إجازة بالنشر والموثوقية من عدمها.
وليتطور الأمر بعد ذلك لأن تضع هذه المنصات عبارات صريحة كتحذير مباشر بأن منشوراً ما ليس موثوقاً أو كاذباً حتى، ليصل الأمر ذروته بعد ذلك مع بدء معارك الانتخابات الأمريكية بشقيها الرئاسي والتشريعي، فقد اختلط حينها المنشور الصحي بالسياسي اختلاط الحابل بالنابل، إضافة للمنشور الإحصائي والتوعوي، حيث أصبحت كل هذه المدونات والأخبار والمنشورات تحت عين الرقيب، وذلك للمرة الأولى، ولتتصرف هذه المنصات الشهيرة بصورة توصف في بعض جوانبها بالهستيرية، وهي المنصات التي حافظت على حيادها الجليدي لسنوات، حيث كانت تقوم هذه المنصات بمسح كثير من المدونات والمنشورات بحجج شتى، وقوانين طارئة تصدرها هي بنفسها وتطبقها بانتقائية كإمبراطورية منعزلة. وما لم يقع ضحية للحذف، فإنه كان لا بد أن يُذيّل بالتحذير والتنبيه، حتى وصل الأمر في النهاية إلى إغلاق لحسابات ومدونات لها ملايين المتابعين، كان أشهرها حساب الرئيس الأمريكي الأسبق (دونالد ترامب) على منصات عدة. ليُفتح بهذا حينها باب الأسئلة الفلسفية العويصة عن معنى الحرية والجِدَة في وسائل الإعلام هذه، ولتطرح قضايا المسؤولية ومعناها، ومن هو الأهل لأن يصدر القرار، ويصنف الصحيح من الخاطئ، ويكون بهذا هو المتحكم والراعي، وذلك إن صح هذا كله في عالم (الإنترنت).
بل إن منظر مقرات بعض هذه الشركات في عدة مدن أمريكية، وذلك عندما احتاجت إلى حماية أمنية مشددة مكونة من قوات الشرطة والطوارئ أثناء ذروة مشكلات الوباء والانتخابات لتحميها من غضب المتظاهرين والمعترضين المتجمهرين أمامها، لهو صورة طبق الأصل لمباني وزارات الإعلام ومقرات الإذاعات والتلفزة في أي دولة فقيرة ما تعاني من اضطرابات عنيفة، وتحتاج أن تظل مقراتها الإعلامية تحت الحماية الأمنية المشددة تحسباً لأي تغير أو اضطراب معتاد في مثل هذه الدول. ولهذا فقد كان منظر مقرات هذه الشركات الحاملة للواء الإعلام الجديد وهي تحت الحماية الأمنية المشددة من المتظاهرين الغاضبين من سياستها المتحكمة في المحتوى يطرح السؤال البدهي اليسير: هل تغيّر شيء؟
وفي ذات الوقت، فقد طرح هذا التحكم المفاجئ من شركات الإعلام الجديد السؤال حول قوة شركات الإعلام الجديد وتحديها للحكومات، وبأنها أصبحت هي حكومات عصر ما بعد الحداثة فعلاً، وأنها كانت تحتاج فقط إلى حدث ما؛ كي تُظهر الوجه الحقيقي، ولتتحول بهذا الخدمة الإعلامية على هذا المنصات من أن تجعل الإعلام سلطة رابعة في الدولة مع السلطات الأخرى المنفصلة في وضعها الطبيعي جنباً إلى جنب، إلى سلطة شمولية تتحكم في السلطات الأخرى وتخيفها بالهيمنة، بل لقد تعدى هذا حدود الجغرافيا الأمريكية ليصل إلى دول وقارات أخرى بكاملها، والشواهد على هذا كثيرة، فعملاق التواصل والإعلام الأمريكي (فيسبوك) - على سبيل المثال - له مشكلة كبرى مع الحكومة الأسترالية، وذلك حول تقديم الخدمات والخصوصية، الأمر الذي جعل الشركة تقف بكل صلابة في وجه الحكومة، وذلك في دولة بحجم (أستراليا).
ولأن لكل فعل ردة فعل أو أفعال، فقد ظهرت هذه الردود في صور شتى، ففي الداخل الأمريكي يسعى كثير من المؤثّرين الذي تم محاصرتهم على هذه المنصات الإعلامية (الجديدة) إلى إنشاء منصات أخرى ووسائل إعلام وطرائق تواصل يمكن وصفها مبدئياً بأنها (أكثر جِدَة)، وأشهر مثال على ذلك إعلان الرئيس الأمريكي الأسبق (ترامب) اعتزامه إنشاء وسيلة تواصل تشتمل على منصة إعلامية جديدة في المستقبل القريب، كرد فعل على ما تم اتخاذه تجاهه.
وعلى الصعيد العالمي، ها هو القطب الروسي ودوله الموالية له يعتزمون بناء مجالهم الخاص والمستقل على شبكة (الإنترنت)، ذلك الذي لا يخضع لشروط الإنترنت الأمريكي ووسائل تواصله وتأثيره، وهو بهذا يسير على خطى الجانب الصيني ودوله الموالية له أيضاً، حيث بدأت (الصين) هذا الأمر مبكراً، وهي تزداد استقلالية عن شبكات (الإنترنت) الأمريكية بمرور الوقت.
ولتكون بهذا المفارقة، حيث إن مهمة الأصلية (للإنترنت) ومنصات تواصله الاجتماعية ووسائل الإعلام التي عليها أن تحقق مزيداً من التواصل والتقارب، ولكنها الآن تجعل من العالم جزراً منعزلة، قائمة على الخوف من الآخر والشك في نواياه، وبهذا تقوم كل منطقة عالمية ببناء حيطانها وجسورها الافتراضية، وبالتالي لن ينشأ إعلام في داخل جسور وحيطان مغلقة يغلفها التوجس.
ستظل هذه المنصات قائمة في المستقبل القريب، وسيكون لها الكثير من التأثير، ولكنها ستغرق شيئاً فشيئاً في جدليات الحريات والقوانين وأسئلة الممنوع والمسموح، الأمر الذي سينهكها ويسحب بساط الموثوقية منها، وهو عنصر قوتها الأساسي، وستكون هذا السؤالات والجدليات هي ما سيجعلها مشابهة تماماً لما فرت منه سابقاً وقامت على نقيضه ونقضه كما تدعي من وسائل إعلام (قديمة) و(تقليدية). كما أن المتوقَّع أن يكون للجانب الاقتصادي الكلمة الفصل في الأمر، فأسواق (وول ستريت) لا ترحم، وأسهم هذه المنصات الإعلامية قد تعرضت لهزات قوية خلال الفترة القصيرة الماضية، الأمر الذي ينبئ بما بعده.
وما الازدياد المطرد في ظهور وسائط إعلامية ذات أشكال قديمة في أصلها، ولكنها جديدة في صورتها، وذلك مثل منصات (البودكاست) المتكاثرة بصورة ملفتة في الولايات المتحدة خلال الفترة الأخيرة، إلا دليل واضح على امتدادات وثورات تنسخ نفسها في صور جديدة، فـ(البودكاست) ما هو إلا محطات (راديو) إذاعية شخصية بحتة منخفضة التكاليف، ولكنها عالية التأثير. ولكن حتى هي أيضاً عرضة للخضوع للقوانين وتجاذبات السماح والمنع بفعل المنصات المس تضيفة لها.
ولأن ظلت وسائل الإعلام بصورتها المعتادة قبل منصات الإعلام الجديد قائمة لسنوات وعقود طويلة دون اهتزاز، فإنه لمن الغريب أن منصات الإعلام الجديد تتعرض لهزة قوية في محتواها وشروطها، ثم في ثقة المتلقي لها في زمن قصير جداً قياساً إلى عمر الوسائل السابقة، فعمر أقدم هذه الوسائط والمنصات لا يتعدى عقداً واحداً فقط أو ما يقارب العقدين لبعضها في أفضل الأحوال، وذلك باعتبار النشأة لا التأثير، وهي مع هذا العمر الربيعي الفتي تتعرض الآن لاختبار وجودي، ويتوجب عليها الإجابة على أسئلة عديدة حول قوانينها ومشرعي دساتيرها وأيديولوجيتها، بل إن طرح فكرة الأيديولوجيا لمؤسسات يفترض أنها حرة بلا سلطات بشرية ينفي فكرة كونها جديدة ووسيلة إعلام بديل، وما طلب (الكونغرس) المستمر لقيادات هذه المنصات لاستجوابات مختلفة وكثيرة؛ إلا دليل على حجم الفراغ الكبير والثغرات، والأسئلة التي ما تزال بحاجة إلى صياغة وتثبيت منطقي واضح، مع إيجاد مزيد من الإجابات الواضحة والمفصلة، بل لقد تعدى الأمر إلى طلب دول الاتحاد الأوروبي لمثل هذه الإجابات من قادة هذه الشركات.
وبهذا؛ فإن الإعلام سيظل يدور في حلقته الفلسفية المفرغة، فالإعلام الذي بدأ فردياً أولاً في حضارات الإنسان الأولى، فالإنسان وقف وحيداً يذيع الأخبار وينقل الرسائل دون مؤسسة إعلامية، ثم دخل هذا الإعلام بعد ذلك في نطاق المؤسسة ممثلة في صحافة المؤسسات من (الراديو) و(التلفاز) والأخبار الورقية، بل إن هذه الوسائل الإعلامية ولدت كمؤسسات أساساً، ثم ليصبح هذا الإعلام فردياً بقوة (الإنترنت)، ثم هو يبدأ الآن بالعودة لسلطة المؤسسة مرة أخرى، وبصورة أكبر كما يظهر من المعطيات العديدة، وهذا هو ما يحصل في الولايات المتحدة الأمريكية الآن، سينعكس بذلك على العالم كله، فهل معنى ذلك أنه لم يعد هناك جديد؟ وما هو مستقبل هذه التحولات المتشابهة؟ وهل هناك طور جديد قادم للإعلام الأمريكي ثم العالمي يصل فيه إلى حل وسط، وينتهي إلى طريقة تجعل من أي منصة إعلامية مقصداً كامل الموثوقية بتحقيقها لشرط الحياد ونقل الحدث مجرداً، أم أنه لا فكاك من أن الإعلام سيظل إنساناً، والإنسان المحايد محض خرافة!
** **
وائل بن عبد الله الشهري - أكاديمي سعودي - الولايات المتحدة الأمريكية