د. خالد عبدالله الخميس
في عام 1994 تعينت أستاذاً مساعداً بقسم علم النفس بجامعة الملك سعود بعد حصولي على الدكتوراه من جامعة لندن في تخصص علم النفس العصبي، وعندما بدأت في التجهيز لتدريس مواد التخصص، لم أجد مرجعاً مناسباً بالعربي يفي بالغرض، ولفت نظري الفارق الشاسع بين محتوى المادة العلمية في الكتب المقررة لدينا بالمقارنة بما هو عليه حال الكتب المقررة بجامعة لندن، ولا أبالغ إن قلت إن حجم الفارق في المحتوى والمضمون للمراجع هنا وهناك لا يقل عن الفارق بين تكنولوجيا اليوم وتكنولوجيا عصر الستينات، لذا وجهت وقتي وطاقتي الأكاديمية نحو هدف تأليف كتاب عربي أكاديمي يفي بالغرض في التخصص يوازي في محتواه ومضمونه ما عليه الكتب الإنجليزية المعتبرة، وكان هذا العمل يحتاح إلى تفرغ على حساب الانصراف عن أبحاث الترقية.
سرت في وجه التأليف على ما سار عليه رواد التخصص، أمثال كالات وروزنفيك وكولب ووشو وكارلسون وبيومنت، إضافة لمتابعة جديد أبحاث المجلات والدوريات العلمية ذات العلاقة، فعكفت للاطلاع على كل ما هو جديد في التخصص، فأضفت بعض الفصول التي لم تكن واردة مثل فصل (فيزولوجيا الوعي) وفصل عن (الأسس العصبية الجينية للظاهرة النفسية)، وتطلب إنجاز هذا العمل جهد خمس سنوات من العمل الدؤوب الذي ذكرني بفترة مشواري لرسالة الدكتوراه مع إضافة جانب المتعة والتسلية لصالح التأليف.
لم تكن لدي إشكالية في إعداد المادة العلمية بقدر ما كانت الإشكالية تتمحور حول كيفية إنزال أسلوب الكتاب العلمي ذي المواضيع المعقدة إلى مستوى كبير من التبسيط والسلاسة ليُمكن فهمه من قبل جميع شرائح الطلاب بمختلف خلفياتهم العلمية، فألزمت نفسي بمعيار أسلوب السهل الممتنع، حيث تعميق المادة العلمية مع تبسيط عرضها، مع الحفاظ على الأصالة والتحديث والتنظيم والإخراج والصور والأشكال بشكل مشوق وجاذب.
ولعلي لا أنسى لحظة خروج الكتاب من المطبعة وتصفحي لأول نسخة منه، وما صاحب تلك اللحظة من مشاعر جياشة تمثلت في تصفح جهد خمس سنوات خلال خمس دقائق، شعرت خلالها وكأنني قبضت ثمن الكتاب مقدماً، فيكفي ما قضيته مع الكتاب من ليالٍ ملاح حينما كان يسامرني بحديثه الشيق الذي يدور حول خبايا الدماغ وخبايا النفس وخبايا مشاعرنا وأفكارنا الكامنة في تجويف أدمغتنا، وأذكر أني وضعت على غلاف الكتاب صورة تحكي هذا المعنى، فاستعنت بفنان وطلبت منه رسمة لصورة للدماغ بداخل صندوق مغلق، كناية عن غموض أسراره، وعبّرت الصورة إلى محاولات التقنية الحديثة لفتح الصندق بقوة التقنية وما يتبع ذلك من حصول مقاومة وصراع بين ما يخبؤه الدماغ وتكشفه قوة التقنية، وتظهر الصورة عن تكشف جزء يسير من أسرار الدماغ ويظل الجزء الأكبر محجوزاً داخل الصندوق. وهكذا تعبر الصورة بأن الحديث عن الدماغ حديث لا يمل ولا ينتهي.
خرج الكتاب عام 2000 وحمل عنوان «أساسيات علم النفس العصبي» ومثّل أول باكورة مؤلفاتي الأكاديمية وأول كتاب عربي في مجال علم النفس العصبي وأول إصدار من إصدارات سلسلة (فسلجة السلوك).
بحثت خلالها عن دور نشر تقبل طباعته ونشره إلا إنهم رفضوا بحجة أن عنوان الكتاب غير معروف ولا يريدون أن يخاطروا في طباعة كتاب مجهول، فطبعت من الكتاب أربعة آلاف نسخة على حسابي، استلمت جميع نسخ الكتاب من المطبعة معبأة في كراتين ووضعت تلك الكراتين في غرفة بملحق المنزل، وظننت أن الأمر سيستغرق سنة أو سنتين حتي ينفد، إلا أن توقعاتي لم تكن في محلها، فلقد جُمد الطلب على الكتاب وبقيت تلك الكراتين على حالها سنوات «وكأنك يا بو زيد ما غزيت».
حاولت توزيع الكتاب على المكتبات وكررت المحاولات لكن لم يستجب أحد حتى ولو بالتصريف، ولا أنسى إصابتي بخيبة الأمل عندما سلمت صاحب أحد تلك المكاتب نسخة من الكتاب وأطال في تقليب صفحاته وظننت أنه مندمج في قراءته، لكنه ما لبث أن أعاد الكتاب إليَّ ثم قال: «آسف؛ هذا الكتاب لا يصلح».
عدت لغرفة الملحق أتأمل بتشاؤم تلك الكراتين المتزاحمة، وقلت في نفسي: «هذه عاقبة من لا يمشي ممشى غيره، فلو سلقت محتوى الكتاب كما يفعل الغير لانتشر».
تمنيت على الأقل أني لم أستعجل في إخراج الكتاب، وأبقيته في الكمبيوتر أعدل فيه وأتسلى عليه، وتذكرت فقرة كتبتها في مقدمة الكتاب، جاء فيها «ولا أخفيكم أن شعوري عندما قدمت الكتاب للنشر كان شعوراً ممزوجاً بمشاعر الفرح ومشاعر الحزن، فبمقدار ما فرحت ليخرج الكتاب من ردهات الحاسب الآلي ليرى النور، هو مقدار ما حزنت على فراقه ووداعه، فكم كانت ليالي وأيام سعدت فيها بالحديث معه، وأنست بحواره وجدله. إنه بقدر ما كان يتعبني كان ينشطني، وبقدر ما كان يرهقني كان يسليني، لكنّ رجائي أن الفراق لن يدوم وأن الشعور بحزن الوداع سيتبعه شعور ببهجة اللقاء حينما يكون هناك طبعات قادمة إن شاء المولى».
بالفعل تمنيت أن أُرجع الكتاب من حالته الورقية إلى ردهات الحاسب وأعاود العيش مع حديثه المسلي والممتع.
ضحكت على نفسي عندما كتبت على غلاف الكتاب «سلسلة فسلجة السلوك- الأصدار الأول» بزعمي أنني سوف أواصل في كتابة إصدارات أخرى، فإن كان هذا الإصدار قد فشل فكيف أندفع لإصدار كتاب آخر.
تم إقرار الكتاب كمقرر في القسم، وظل انتشار الكتاب على مستوى طلابي فقط، ومن باب التعريف بالكتاب أهديت الأساتذة المعنين بتدريس تلك المادة في أقسام علم النفس في الجامعات الأخرى، كجامعة الإمام وجامعة الملك عبدالعزيز وجامعة أم القرى (عندما كان عدد جامعاتنا 8 جامعات) إلا أن محاولتي باءت بالفشل، إذ إن الكثير منهم مبرمج على كتب قديمة لها نفس طابع الضعف العلمي في المحتوى والصياغة، وأقولها وللأسف إن تلك الكتب لا زالت مقررة في جامعاتنا رغم تزايد أعداد الكتب الرصينة. وبينما كنت أُهدي الكتاب لزملاء التخصص، أذكر أن أحدهم قد اعترض على تسميته «أساسيات»، باعتبار أن محتوى الكتاب هو «متقدم»، ولا يناسب طلاب البكالوريوس، مع أنني سرت على معيار وخطى الكتب المعتبرة عالمياً والتي كانت مقررة على مرحلة البكالوريوس.
في غضون ذلك تم تحكيم الكتاب من قبل المجلس العلمي بجامعة الملك سعود، وحصل على تقييم عالٍ جداً، إلا أن هذا كله لم يُحسن في تسويقه، عاودت طرق أبواب مكاتب زملائي في التخصصص في الجامعات السعودية إلا أن الكثير يبدي اعتراضه واعتذاره.
عدت للمربع الأول، وعدت أتأمل كراتين الكتاب في مستودعها وقلت لها نفس ما قلته في سابق حديثي معها: «هذه عاقبة من لا يمشي ممشى الناس حوله»، من عام 2000 وحتى 2002 حاولت وحاولت وبعد محاولات عدة، تم إدخال الكتاب لمكتبات عدة كانت من بينها مكتبة جرير، وبعدها بثلاثة أشهر جاءني اتصال من مكتبة بالكويت تطلب كميات كبيرة من الكتاب لصالح جامعة الكويت، ومن باب الفضول سألت عن الدكتور الذي قرر الكتاب، فقيل لي أنها دكتورة مختصة في علم النفس الفيزولوجي ومن خريجات جامعة بريطانية واسمها الدكتورة حصة النصار، ومن باب الفضول أيضاً تواصلت مع الدكتورة عن كيفية تعرفها على الكتاب، فقالت لي بعدما أثنت على الكتاب: لقد حصلت على الكتاب من مكتبة جرير، فرع مكة أثناء أدائي للعمرة. وتأكد لدي أن أهم فروع تسويق الكتب السعودية للخارج هي المكاتب التي بمكة أو المدينة لكون تلك المدينتين يرتادهما كل من يود زيارة السعودية.
بعدها تم تزايد الطلب على الكتاب وتم إقرارة في جامعات داخلية وأخرى خليجية، كالكويت والإمارات والبحرين، حتى الدول العربية الأخرى طلبوا تقريره لديهم، لكن حال بينهم وبينه وصوله لهم فارق العملة وسعر الكتاب الذي لا يتناسب مع دخل الطلاب في تلك الدول.
بحمد الله، نفدت الطبعة الأولى في عام 2006، وجهزت نفسي قبلها لإعداد طبعة ثانية في ذلك العام، ثم نفدت، ثم أعدت طباعة الطبعة الثانية في عام 2013 ثم نفدت، ثم عملت على طباعته طبعة ثالثة عام 2018 والتي هي الآن في طريقها للنفاد. مضى على الطبعة الأولى أكثر من عشرين عامًا وما زالت طباعته تتوالى بين طبعة جديدة وإعادة طبعة. وبالمناسبة، فهنالك فارق كبير قد يخفى حتى على المؤلفين العرب، بين مصطلح إعادة الطبعة Reprinted ومصطلح طبعة جديدة New Edition، إذ الطبعة الجديدة يلزم منها تغيير كبير في محتوى الكتاب وتحديث معلوماته طبقاً للمستجدات العلمية، أما إعادة الطبعة فلا يكون التغيير إلا في جانب التنقيح والمراجعة البسيطة، ولذا تستغرب أن يُكتب على غلاف كتاب ثقافي أو أكاديمي «الطبعة العاشرة»، وهي نفسها في المحتوى «الطبعة الأولى».
على العموم، نجح الكتاب في تسويق نفسه بنفسه وبفضل محتواه وأسلوبه الذي احترم عقلية المتعلمين، وعدلت عن قناعتي السابقة من القول «هذه عاقبة من لا يمشي ممشي غيره» إلى القول «ما يصح إلا الصحيح».
تذكرت سخريتي من توقعاتي حول متابعتي في إصدارات «سلسلة فسلجة السلوك»، التي عدلت عنها، وعزمت على العمل على الإصدار الثاني من السلسلة، فعكفت أربع سنوات لتأليف كتاب «علم النفس الدوائي؛ للأخصائيين النفسيين» حتى خرج في عام 2011 وأرفقت معه قرص DVD وحوى القرص معلومات بالصوت والصورة تبسط عرضًا لتصنيفات الأدوية النفسية، وراجع الكتاب ثلة من علماء الأدوية والطب النفسي وعلم النفس الإكلينيكي، وبحمد الله حصل الكتاب على جائزة جستن لأحسن كتاب، وطُبع منه الطبعة الثانية في عام 2020.
تبع الإصدار الثاني من كتاب «علم النفس الدوائي» إصداران آخران في عام 2016، الأول كان بعنوان «كيمياء السلوك» والثاني بعنوان « الوراثة النفسية»، ودخل هذان الكتابان قائمة الكتب التي تمثل مراجع لاجتياز اختبار تصنيف الأخصائي النفسي. وهذان الكتابان تم دمجهما في غلاف واحد ليصبح كتابين في كتاب واحد.
وهكذا صدر من سلسلة (فسلجة السلوك) أربعة إصدارات: أساسيات علم النفس العصبي، علم النفس الدوائي، كيمياء السلوك والوراثة النفسية، وحققت هذه السلسلة قبولاً ونجاحاً جيدًا سواء من الأساتذة أو المتعلمين، وتعلمت من تجربيتي في التأليف رغم تواضعها «أن الكتاب والعمل الجيد قد لا يثبت نفسه إلا بعد مضي فترة قد تطول وقد تقصر، المهم أن لا تتعجل في قطف الثمار».