د.محمد بن عبدالرحمن البشر
أبو الربيع أمير وشاعر موحدي، أي من الموحدين الذين حكموا المغرب والأندلس، وامتد سلطانهم إلى مساحة لم يتمكن أحد من الدول السابقة واللاحقة أن يصل إلى ما وصلت إليه هذه الدولة سوى الدولة الإسلامية في بداية الفتح، وقد امتد سلطانها من طرابلس في ليبيا حتى المحيط الأطلسي، إضافة إلى جزء من الأندلس، لكنها لم تفعل شيئاً في رد ما خسره المسلمون في الأندلس لقوة ومنعة أعدائهم هناك. سنترك هذا الموضوع لنتناوله في مقالات لاحقة، ونتحدث عن هذا الأمير الشاعر الفذ، ووصفه للربيع، لا سيما أننا نعيش في موسم الربيع الذي يرفل بالحسن والبهاء، واسم شاعرنا سليمان بن عبدالله بن عبدالمؤمن، ووالده أكبر أبناء عبدالمؤمن، المؤسس الحقيقي لدولة الموحدين بعد وفاة المهدي، ليكون هذه الدولة المترامية الأطراف، وشاعرنا كان حاكماً لأحد الأقاليم في شرق المغرب.
كان الربيع قد حل ببلاده، ونشر الزهر في كل بقعة من ذلك السهل الممتد الذي يطرب له الفؤاد، وتلذ بمنظره العيون، وجاءت سحابة فأسقطت ما حملت من ماء، فأخذ ينساب رويداً رويداً على قطعة من رخام، فراق لشاعرنا المنظر، فنظم أبياتاً قال فيها:
أنظر إليها فقد سالت جوانبها
بالماء سيلاً خفيفاً دمعه يكف
كأنها مقلتي يوم وداع وقد
لاح الرقيب فلا تجري ولا تقف
ما أجمل ما قال، وما أبدع ما وشى به واختال، فهو يصف تلك الرخامة وكأن السماء قد أرسلت دمعها، وشبه ذلك المنظر بمقلته يوم وداع حبيبته، أثناء قدوم الرقيب، فاحتارت بين أن تجري أو تقف، فما أبدعه من وصف، وما أغناه من ربط بين ماء ينساب، ودمع يسيل على فراق حبيب.
وتعالوا لنزيح اللثام عن بيتين من الشعر يقولهما وقد أهدى حبيبته خوخة، فيصف لونها ويشبهها بما حل به عندما أطل عليه حبيبه قبل سابق موعد، وهو في روضة كساها الربيع.
أَرسَلت نَحوك يا خَليلي خَوخة
قَد جمعَت فيها الصبا وَالشمأل
لَوني وَلَونك إِذ تَطل فَجأة
فَأراع مِن حذري عَلَيك وَتخجل
فهو يصف لون تلك الخوخة التي بعضها أصفر والآخر أحمر، ويقارنها بلونه ولون حبيبته، بعد أن يطل عليه فجأة، فيصفر لون خديه خوفاً على حبيبته من الرقيب، وتخجل تلك الحبيبة من هذا اللقاء غير المرتب من قبل، فيحمر وجهها، وترتبك وكأنه قد اختار تلك الخوخة لإرسالها لحبيبته، ليذكرها بتلك الصدفة الجميلة التي حدثت لهما، وربما أنه اشتاق، وحاول تجديد اللقاء، ولا أعتقد أن ذلك قد يعوزه، فهو أمير وشاعر، وجده مؤسس لدولة الموحدين.
هذا الوصف ذكرني بقول أحد الشعراء وقد أهدى صديقه تفاحة، بعضها محمر والآخر مصفر، لخوفها من ألم العض:
تفاحة محمرة البعض
لخوفها من ألم العض
وشاعرنا الأمير أبو الربيع، وهو يصف لنا الروض في فصل الربيع، وكأنه في جولات حرب سجال مع الطقس، فيقول:
بينَ الرياض وَبينَ الجَو مُعتَرك
بيض مِن البَرق أَو سُمر مِن السمر
إِن أوترت قَوسَها كف السماء رَمت
نبلا مِن المزن في درع مِن الغَدر
فتح الشقائق جرحاها وَمغنمها
وَشي الربيع وَقتلاها جَنى الثمَر
فَاعجب لِحَرب سجال لَم تثر ضَرَراً
نَفع المحارب فيها غاية الظفر
هذه القطعة الشعرية الأدبية، جعلتني أكتب هذا المقال عن أبي الربيع، فهو يرى الصراع الإيجابي الذي لا يخلف ضرراً بل نفعاً يستفيد منه الإنسان، والطير، والحيوان، والتربة، والروض والأشجار، فهو يذكر البرق بنوره الأبيض، أو ذلك الغمام الأسمر، وإذا ما جعلت الوتر في القوس، وأرسلته نبلاً من قطرات الماء التي تساقط من السحاب، فتنفتح الشقائق وكأنها هي مجروحة من نيل تلك القطرات، ليكون مغنمها نسيم الربيع، ورائحة الزهور الفواحة، أما قتلاها فهي ثمار ينتفع منها الإنسان، والطير، والحيوان، ولكنها حرب تحمل معها الخير، دون ضرر، فإنما غاية ذلك المحارب القادم من السماء، هو بث وإنبات كل ما هو جميل ومفيد، وهكذا هي الطبيعة أرحم وأنفع من الإنسان من أخيه الإنسان.
وسأستعير أبياتاً لابن زنباع يصف فيها فصل الربيع وتمازج الطقس والروض، فيقول:
أبدت لنا الأيام زهرة طيبها
وتسربلَت بنضيرها وقشيبها
واهتز عطف الأرض بعد خشوعها
وبدت بها النعماء بعد شحوبها
وقفت عليها السحب وقفة راحمٍ
فبكت لها بعيونها وقلوبها
فعجبت للأزهار كيف تضاحكت
ببكائها وتباشرت بقطوبها
وتسربلت حللا تجر ذيولها
من لدمها فيها وشق جيوبها
هكذا كان الربيع في كل زمان ومكان، جاذباً للراحة، مثيراً للبهجة والسعادة، منظراً جميلاً، ونسيماً عليلاً، يرمي بهموم الدنيا إلى الوراء، لهذا وصفه الأدباء والشعراء.