م. خالد إبراهيم الحجي
إن المعلومات والمعطيات والوقائع التي تتضمنها تقارير الاستخبارات الأمريكية ليست من المسلّمات البعيدة عن الشكوك، بل إنها قابلة لإعادة التحليل والتدقيق، والاستنتاج الموضوعي للوصول بطريقة مباشرة إلى الحقائق.. وفي هذا المقال تقريران كلاهما مبني على استنتاجات مغلوطة معيبة: الأول تم استخدامه حجة للعمل العسكري في الشرق الأوسط، والثاني تم استخدامه حجة للتدخل في الشؤون الداخلية للدولة الأكثر تأثيراً في الشرق الأوسط.. وفيما يلي قراءة تحليلية لهما: التقرير الأول: الذي قال بأن صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل، واستشهدت به إدارة الرئيس الأمريكي بوش في إثبات قضية غزو العراق منذ ما يقرب من 17 عامًا.. وقد اتضح فيما بعد، أن قرار غزو العراق تم اتخاذه؛ لأن المسؤولين في إدارة بوش خلصوا إلى أن وجود أسلحة الدمار الشامل في العراق يمثِّل أقوى حجة للغزو، وبالتالي استبعدوا نهائياً جميع الشكوك حول صحة التقرير الاستخباري الذي يشير إلى وجود أسلحة الدمار الشامل. وقد قال نائب وزير الدفاع آنذاك، بول وولفويتز، لمجلة فانيتي فير في عام 2003: «لأسباب بيروقراطية استقررنا على قضية واحدة، أسلحة الدمار الشامل، لأنها كانت السبب الوحيد الذي يمكن أن يتفق عليه الجميع». وبعيدًا عن الاعتراف بالدور الحقيقي للاستخبارات الأمريكية في كارثة غزو العراق، صدرت لاحقاً البيانات المسيسة من إدارة الرئيس بوش التي تبرر غزو العراق، وتعيد صياغة الادعاءات الرسمية البالية التي تم تصميمها، لتعزيز الأسطورة القائلة بأن هناك «فشلاً استخباراتياً» أدى إلى الغزو الأمريكي.
والتقرير الثاني: الذي صدر بشأن جريمة مقتل المواطن السعودي/ جمال خاشقجي - رحمه الله - وهذا التقرير لا يقل سوءاً عن تقرير أسلحة الدمار الشامل في العراق، ويتضمن استنتاجات مسيئة، وغير صحيحة عن قيادة المملكة العربية السعودية، وقد سارعت وزارة الخارجية السعودية بإصدار رد فوري عليه جاء فيه: «بأن حكومة المملكة ترفض رفضاً قاطعاً ما ورد في التقرير الذي زُوِّد به الكونجرس بشأن جريمة مقتل المواطن السعودي جمال خاشقجي -رحمه الله - ولا يمكن قبولها بأي حال من الأحوال».. والسبب الظاهر من تزويد الكونجرس بالتقرير؛ هو لتوطيد العلاقة بين إدارة بايدن مع المشرعين، والسبب الباطن، نتعرّف عليه في سياق جواب السؤال التالي: لماذا تحتاج إدارة بايدن إلى عرض التقرير الاستخباري عن جريمة مقتل المواطن السعودي خاشقجي - رحمه الله- على الكونجرس، التي تستحوذ على جانب صغير جداً من القضية الأكبر أهمية وهو «مكون الشرق الأوسط»؟ والجواب: لأن المسؤولين في إدارة بايدن خلصوا إلى أن أفضل الطرق لأحياء إرث أوباما هو التدرج، أولاً: التدخل في الشأن الداخلي للدولة الأقوى تأثيراً في الشرق الأوسط باستعمال تقرير الاستخبارات. ثانياً: تسييس جريمة خاشقجي - رحمه الله - المحسومة سلفاً من قبل القضاء السعودي، وتضخيمها وتحويلها إلى قضية شرق أوسطية. ثالثاً: تسليط الضوء على»مكون الشرق الأوسط» التي تعتقد وتؤمن إدارة بايدن أن هو الأهم في الإرث الذي تركه أوباما، ومن هذه التركات «الإسلام السياسي»؛ كما ترى إدارة بايدن أن إعادة إحياء إرث أوباما يقع ضمن إطار شعارها الجديد: «أمريكا عادت»، «America is back» الذي أصبح يستخدمه الرئيس بايدن مراراً وتكراراً في خطاباته المتلفزة..
ومنذ أن تولى الرئيس بايدن للرئاسة الأمريكية عادت أمريكا إلى اتفاقية المناخ، وتم تعيين جون كيري مبعوثاً خاصاً يمثِّل الرئيس في الاتفاقية.. وعادت وأخذت مكانتها الطبيعية في الناتو، ورحبت بعودتها دول الناتو بعد الجفاء والتباعد الذي كان بينها وبين الرئيس ترامب.. وعادت إلى منظمة الصحة العالمية.. وعادت إلى اليمن ورفعت اسم مليشيات الحوثي عن قائمة الإرهاب.. وهي الآن بصدد العودة إلى الاتفاقية النووية مع إيران.. وقد يتضح في الأسابيع والأشهر القادمة أشكالاً أخرى من العودة.. وجميع ما سبق، يمثِّل ملامح من إرث أوباما التي ساهمت في صياغته على أرض الواقع هيلاري كلنتون، وزيرة الخارجية في عهده، ولعبت دور البطلة التي حملت رايته إلى الدول العربية لدعم حركات الربيع العربي، بما في ذلك تدخلها في الشأن العائلي السعودي بشعار «تمكين المرأة»، الذي هو الآن محور رئيسي في رؤية محمد بن سلمان 2030، ويتم تطبيقه على قدم وساق وفق المعايير السعودية، وليس وفق معايير إرث أوباما، وهو ما يعد خيبة أمل لهيلاري كلينتون.. وعند التأمل جيداً في بيان وزارة الخارجية السعودي الذي رد على التقرير الاستخباراتي الأمريكي، نجده يحمل معاني الرفض الاستباقي، وكأن وزارة الخارجية السعودية قرأت ما يدور في ذهن إدارة بايدن؛ لذلك فإن العبارات المستخدمة في البيان السعودي قطعية، غير قابلة للتأويل، جميعها تعني الرفض الآن ومستقبلاً، لكل ما من شأنه المساس بقيادة المملكة وسيادتها واستقلال قضائها..