منذ عدة أعوام ليست بالبعيدة بُني للعالم بيت واحد صممه أصحابه وروجوا له على أنه متاح للجميع بغرض التسلية والتقارب، تُرِك بابه مفتوحاً على مصراعيه لمن يريد الدخول وكذلك لمن يريد الخروج، كل من كان يدخله يفتن بما فيه من أخبار ومقاطع أفلام يحبها، صورة لقريب لم يعد يراه أو صديقٍ فرق العمر بينهما، أو صورة لشخص لم يحلم حتى بالحديث معه وليست صوراً فقط، بل أخبار ومعلومات من كبر ومن تزوج ومن أنجب ومن.. ومن؟؟
شيء فشيئاً كبر العدد وزاد، الغريب أن البيت ما زال متسعاً فالمتوافدون لا يزالون يأتون.. الفضول المتنامي لمعرفة ما يفعله الغير وما يفكرون به يكاد يقتل الجميع، لم تعد للخصوصية داخل هذا البيت مكان في أي وقت يرسل إليك أحدهم رسالة أو يعلق على صورة أو يضيف تعليقاً. كثرت الصداقات وبدلاً من أن تعرف أخبار أقاربك وأصدقائك أصبحت تهتم لآخرين وجد بينك وبينهم نوع من التقارب الفكري الوهمي، فكل منكما يظهر أفضل ما لديه من أفكار وكلمات قد تختلف تماماً عن أفكاره وشخصيته الحقيقية وطريقة تعامله مع الآخرين، فأنتما في نفس البيت ولكن يسمح لكما بالاختباء داخل حجراته الوهمية.
وجد داخل هذا البيت حجرات كثيرة تسع هذا الكم الهائل من البشر، كل مجموعة تتفق في أفكار أو اهتمامات تتجمع في حجرة تختلف عن الأخرى جميعاً، كبلوا دون أن يعلموا بخيوط بالغة التمدد لا يستطيعون التخلص منها، كلما يزيد العدد تزداد الخيوط تمدداً وخنقاً.
لا يستطيع من دخل هذا البيت أن يخرج كما كان أو أن يعود لبيته الأصلي بنفس طباعه واهتماماته وتركيزه مع باقي أفراد أسرته الحقيقية.
فالزوج والزوجة أصبحا فيه أصدقاء، كذلك أبناء العمومة والأخوال لم يعد مسمى الرجل أو المرأة في هذا البيت زوجاً وزوجة وإنما صديقان! حتى الأبناء والبنات تحولوا لمجرد أصدقاء، قد تعرف أخبارهم وتتعرف أو لا تستطيع أن تعرف من هم أصدقاؤهم الآخرون وفيما يتحدثون داخل الحجرات الخاصة وبما يفكرون زادت الشهرة والمشهورون ذاع صيت الفنانين وأصحاب القدرات كذلك.
هدمت بيوت وتهاوت صداقات وفقدت جماليات الحياة، لكن لا يهم طالما يأتي الليل أو تطلع الشمس والكل يمسك بيديه مفاتيح البيت الكبير يدخلون في أي وقت. يهربون من أوامر الأم ونصائح الأب والالتزامات نحو الأخوة والدراسة التى وفرها أيضاً البيت الكبير كي لا يستطيعوا الخروج منه مصورة في قالب غير تقليدي متاحة في أي وقت، لكن من الممكن أن تشاهد قبلها فيلماً أو يعرض عليك بعدها مقطع كوميدي يسخر من أمك أو أبيك وهم يلحون عليك كي تتركها وتلتفت لدروسك.
صورة عائلتك غابت في وهج العائلة الكبرى، مكانة واحترام والديك بدأت في التهاوي، لكن احترام البيت الكبير لا أحد يستطيع أن يجترئ عليه.
أصبحت في بيتك لا تغادره وأنت لست فيه حتى الخوف من أن تفقد أحد والديك أو من تحب أصبح يتضاءل لأنه لديك البدائل وأنت بداخل هذا البيت الذي رويداً رويداً بدأ يغلق حياتك عليه، وحدة القيود التي كان من السهل الهروب منها في حياتك العادية أصبحت قزمة أمام هذا العملاق الذي تملكك وأنت تعطيه بكل سهولة وأريحية كل ما لديك من معلومات لا تعلم كيف ومتى ستستخدم ضدك؟ وتسمح له بالدخول إلى ما دونت من لحظات تخصك وعائلتك من صور وتسجيلات تضع عنوانك ورقم هاتفك تحت امرته وربما أرقام حساباتك البنكية وتحدد له موقعك وتطور الأمر عند البعض أن يعرض ما يأكل ويشرب، بل أدق وأثمن ما في حياته الشخصية على الملأ ليراه جيرانه في هذا البيت الكبير (الإنترنت وما حوى:جوجل، الفيس بوك، والتيك توك، إنستجرام، تليجرام، واتساب) وما انبثق عنها من تطبيقات أخرى تخدم وتتشابك لا من أجلك أيها المسكين، لكن من أجل أن تخدم شيئاً آخر وكياناً آخر، تروج لأفكار كانت في يوم من الأيام غريبة وأصبحت رويداً رويداً عادات ومسلمات وأقل من العادية.
ما تربى عليه أبناء القرن الماضي من أن العالم أصبح أو سيصبح قرية صغيرة لم يعد له وجود، بل أصبح العالم بين يوم وليلة بيتاً كبيراً وربما في يوم جديد ليس بالبعيد سيصبح حجرة صغيرة تدرج تحكم أصحاب هذا البيت فيمن يدخلونه يوماً بعد يوم فزادت الشروط ووضعت الحدود التي من أهمها ألا تكون هناك حدود إن كنت تريد الدخول فلا بد أن تفصح عن الكثير من أسرارك دون أن تدري، أنت تبحث عن معلومة أو شخص أو حتى سلعة يراك أصحاب البيت فتجد نفسك دون أن تدري محاطاً بكم من المعلومات والعروض والإعلانات ربما لم يخطر ببالك أن تتاح لك بهذه السهولة حتى وإن بحثت عن مقطع كوميدي أو تاريخي فهم حاضرون وكأنهم يقولون لك نحن نسيطر على كل شيء ونحتكر المعلومات ونمسك بجميع الخيوط.
ألم تسأل نفسك يوماً: لم كل هذه العروض؟ وما سبب هذا التسهيل المفرط في الدلال المعلوماتي؟ هل من أجل رفاهيتك كما يدعون أم أن هناك خططاً أخرى وسياسات لم تدر عنها شيئاً؟ هل هناك رسم لطريقة وأسلوب الحياة على هذه الأرض، أريد لنا أن نكون إحدى أدواته استغل أصحابه تمردنا وتطلعنا للحياة السهلة التي تخلو من المحاولات والتعب ومحاولة إيجاد لطريقة حياة خاصة بنا ووضعوا بين أيدينا وبين لحظة، بل ثانية كل ما كنا نتعب من أجل إيجاده ليس للتسهيل علينا وإنما لتعودنا على منطق السهولة والكسل وإن كل شيء متساو
لتتجمع لديهم جميع الخيوط وليملكوا هم منابع العلم والمعرفة نكون دائماً وكما أرادوا لنا في موقع المتلقي الذي يفرض عليه أن يكون من بين أعضاء البيت الكبير الذي لا يخجل أصحابه من أن ينتهكوا خصوصية أفراده وجمع المعلومات عنهم، بل واستغلالها ضدهم في بوم من الأيام واحتمالية حرمانهم من الدخول أو تجميدهم إن خرجوا عن قواعد وقوانين البيت الذي يهدرون من أجل البقاء فيه المئات والآلاف مما يملكون هو بيت كبير له باب واحد للدخول يمتلك أصحابه أبواباً خلفية كثيرة تشبه الأبواب التي تخصص لمن يخدمونك في بيتك، لكن مع الأسف الشديد أنت في هذا البيت ضمن ملايين من الخدم لصاحب البيت الذي يدخل من أي من الأبواب الخلفية كيفما شاء وبالصورة التي يغيرها كل مرة يخفي بها ملامحه الأصلية ونواياه التي لا يمكن أبداً أن تكون لصالحك. نظام عالمي جديد تستخدم فيه كافة الوسائل والسبل التي في ظاهرها التفتح وتبادل المعلومات وتسهيل الحصول عليها في مقابل هائل جداً من انتهاك الخصوصية والحرية الفردية من أجل تحقيق مصالح كبار الدول التي تتحكم في العالم التي تتخذ من المركزية المعلوماتية سبيلاً مهماً لبسط النفوذ والهيمنة على دول العالم أجمع.
فعلى مر العصور وتعاقب الحقب الزمنية أثبت التاريخ أن أصوات البنادق وهدير الطائرات واهتزاز الأرض تحت تروس الدبابات لم يستطع أن يجعل من العالم كتلة واحدة أو يوفق الآراء نحو ما تريده القوى العظمى في العالم حتى القنبلة الذرية التي ألقاها الأمريكيون على اليابان لم تستطع أن تقضي عليها كدولة عظمى تكتمل لديها كل عناصر التقدم والتفوق، لكن ما استطاع أن يجمع الكل ويمركز المعلومه هي شاشة تحمل مقاييسه بضع السنتيمترات تشخص أمامها الأبصار وتجمد الأجساد والحواس وتذهب العقول أجهزة تعدت خطورتها ما عجزت عنه الأسلحة الأشد فتكاً في خلق كيان جديد وتحويل رؤية وهدف العالم كما يريد الكبار أصحاب البيت الكبير الذين يجيدون دائماً الدخول من الأبواب الخلفية.
أعلم جيداً أن هذا البيت أصبح واقعنا الجديد ولكن ما زال لدينا الوقت كي نحتفظ بخصوصيتنا ونتمسك بهويتنا وديننا وأن نلح على أبنائنا ومن نقوم بتعليمهم وتربيتهم على أن يضعوا نصب أعينهم دينهم وثقافاتهم ويتمسكوا بحبل دينهم كي لا ينفرط العقد ونتفرق ويضيع أجمل ما اقتنينا من آثار حضارتنا وتاريخنا وعلاقتنا ببعضنا البعض وترابطنا الأسري نأخذ الجديد ولا نفرط بما في أيدينا ولا ضرر أبداً أن ندخل البيت الكبير من كل أبوابه الأمامية المتاحة لنا، بل نحاول أن نكون في القادم من الأيام العثور كذلك على مفاتيح الأبواب الخلفية التي يحتكرها الكبار ونكون يومها نحن الكبار، ولِمَ لا فنحن نقدر ونستطيع.