د. محمد بن إبراهيم الملحم
قدمت سابقاً مجالين من المجالات العشرة التي سردتها الدراسة الأمريكية حول مبادرات الدول التطويرية لتعليمها، واليوم سأتناول المجال الثالث، وهو من أهم الجوانب العشرة التي أشارت إليها الدراسة في نظري لدوره الكبير من جهة، ولأنه من جهة أخرى لا يطرأ على بال كثيرين، ويصحح فكرة سائدة عن عملية التغيير، يمارسها كثير من القيادات التعليمية عبر العالم، فلا يحققون كثيراً من التقدم. هذا المجال هو طريقة تلك الدول في إحداث التغيير التعليمي، حيث لا تنظر إليه أنه يحدث «خطيا» بلغة الإحصاء، بل يجب أن يكون «غير خطي» Nonlinear، وللتبسيط فإن معنى ذلك أن عملية تحديث التعليم يجب ألا تخضع لترتيب معين، وليس لها مسار محدد تتوالى فيه عمليات التغيير أو تأخذ ترتيباً محدداً فيتم إحداث تغيير في (أ) مثلاً، ثم يتم الانتقال بعد ذلك إلى (ب)، أو أن يكون للتغير عموماً مرحلة أولى، ثم مرحلة ثانية وهكذا، بل تسير عملية التغيير في قالب احتمالي مفتوح، فتستهدف كل المجالات التي تشكو من النقص في نفس الوقت، فلا تذهب إلى المساحات السهلة وتترك الأصعب، كما أنها لا تركز فقط على الجوانب المرئية أو القابلة للتقرير Reported والتي يمكن بسهولة الحديث عنها وتترك تلك التي يصعب إبرازها وعرضها، بل هي تستهدف كل ذلك، كما أنها عندما تقدم التغيير لا تخضع للطرق السائدة، بل تقدمه بطرق إبداعية جديدة قدر الإمكان، وهذا أهم ما في الموضوع، ذلك أن المداخل الإبداعية في العادة تُحدِث التغيير بسرعة وبقوة، ولكن مشكلتها في نفس الوقت أن احتمالية نجاحها وفشلها متساوية، فهي معرضة بنسبة 50 في المائة للفشل و50 في المائة للنجاح، ولذلك سمي هذا النوع من التغيير ب «التغيير الاحتمالي» Contingent Approach to Change ولكن هذه الـ50 في المائة نجاحاً إن حدثت فنتيجتها كما أسلفت: تغيير بسرعة كبيرة أو بحجم ضخم، وهذا ما نقصده بأن التغيير عندئذ يكون «غير خطي»، بل ربما أصبح «أسّيّاً» Exponential خاصة إذا ترافق مع تلك الطرائق استخدام التقنيات الحديثة، لأنها هي ذاتها منذ خروجها للعالم وهي تحدث التغييرات الأسية في الاقتصاد والحياة الاجتماعية، ولذا يتوقع لها مثل ذلك في التعليم إذا ما أحسن توظيفها.
عندما يطلق العنان في التعليم للإبداع والتحليق لإحداث التغيير المنشود، فإنه لا يصلح لهذا المسار من يعملون بروح «الموظف»، وذلك يشمل الكل من أعلى السلم إلى آخره، بل يناسبه من يعملون بانتماء للمهنة وتفاعل معها وفهم عميق لمقتضياتها وتصور جيد للعملية التعليمية ولمسارات التطوير، كذلك ربما لا يمكن تحقيق مثل هذا الإنجاز بواسطة من لا يفهم الخلطة التربوية التعليمية، ولم يكن يوما ما معلماً في فصل دراسي مع طلاب التعليم العام، يُعِدّ الدروس ويشرح ويناقش ويصحح الواجبات ويكتب الأسئلة والاختبارات ويتعامل مع المشكلات السلوكية، ويعرف طبيعة ضغوط العمل في البيئة المدرسية، ولهذا تجد في كثير من الأحيان عمليات التغيير التقليدية محدودة ولا تحقق إنجازاً في المخرجات، التقرير يقول عن تلك الدول التي حققت تغييراً تعليمياً ظهر أثره في نتائجها الدولية أنها كانت تتبع مساراً غير خطي في التغيير، فهي تطلقه في كل المجالات ذات الحاجة وبكل الوسائل الممكنة، وتختار له طرائق جديدة ومبدعة تتناسب مع واقع الحال وظروف التطبيق.
ويمكن من جهة أخرى الاستشهاد بأمثلة كثيرة في هذا السياق من التجارب الدولية، خاصة في الدول النامية، والتي شهدت بعض أقاليمها أو مناطقها تجارب تقوم بها هيئات بحثية أو اجتماعية تحاول من خلالها التغلب على عوامل إعاقة الوصول إلى التعليم أو الأداء الجيد، وستعثر في مثل هذه الأمثلة على إبداعات في المنهج المقرر أو في طرائق التدريس ورفع الفاعلية.
ولكن العامل المشترك في هذه التجارب كلها هو عدم النمطية والخروج من الصندوق، وهو ما تعجز عنه الهيئات الحكومية التي تشرف على التعليم، ولا يتصور أن يكون من ممارساتها المعتادة، في حالة الدول التي تبنت هذه الفلسفة ورعت الإبداع في التغيير التعليمي، فقد حققت نتائج سجلتها النتائج الدولية وينبغي أن تشجع بقية الدول على خوض غمار التجربة، يبقى فقط أن يكون التطبيق ناضجاً Mature فيقوم على أساس تشخيصي لأهم الأسباب ووعي عميق لأبرز الأولويات التي يجب العناية بها، مع توظيف صحيح للقوى العاملة التي تشرف على هذا التغيير وترعاه، ففاقد الشيء لا يعطيه.