لكل أسرة كانت صغيرة أو كبيرة بصمة في هذه الحياة، كبرت أو صغرت، زانت أو شانت، أصبحت ذا شأن أو لا شأن لها، أصبح لها ذكر أو لا ذكر لها.. وأنا هنا أود أن أوفق بكتابه ما يعتمل في صدري تجاه أسرتنا الكبيرة الحاكمة، صاحبة التاريخ العريق التليد، وأسال الله التوفيق، فأنا لست بصاحب باع طويل في الأدب، ولكني صاحب محاولات تصيب أحياناً وتخطئ أحياناً أخرى.
بدأت معرفتي بأسرتنا الحاكمة عندما انتقلت أسرتي لمدينة الرياض في السبعينات من القرن الماضي، وكنت حينها في المرحلة الدراسية الابتدائية، وفي ذات يوم كنت عائداً إلى المنزل، ورأيت والدي - رحمه الله - في حالة حزن وكان يبكي واضعاً كلتا يديه فوق رأسه، ويقول مات إمام المسلمين، ولم أكن أعرف ماذا يقصد، وإذا بي بعد ذلك أقول في نفسي ثم ماذا، لن تنطبق السماء على الأرض فقد كنت طفلاً صغيراً، همي أسرتي الصغيرة ومسكني ومدرستي، إلى أن سمعت في يوم من الأيام جدي يتحدث مع بعض الرجال ويقول: «قبل عبد العزيز كان الأمن شبه معدوم، فكل قبيلة تتخذ من هذا الوطن مكاناً محدداً وتغير القبائل بعضها على بعض وينهب بعضهم بعضا، ويقتل بعضهم بعضا، وهناك خوف دائم على الأموال والأنفس».
وعندما لمع نجم عبد العزيز - الذي هو إمام المسلمين بحق - عند فتح مدينة الرياض وما حولها، وطَّد أركان الأمن في أرجاء الوطن، واطمأن الناس على أنفسهم وأموالهم وصار من يسافر من مكان الى آخر لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه إن كان لديه غنم.
وكان من عادة الملك عبد العزيز - رحمه الله - ألا يذهب من مكان إلى آخر إلا ومعه شيء من المال يعطيه ذوي الحاجة والسائلين، وفي يوم من الأيام أعطى امرأة عجوزاً نصيباً مما يوزعه من الأعطيات والصدقات على المحتاجين، فدعت له بدعاء لا يُنسى وقالت: «أسال الله أن يفجِّر لك خزائن الأرض والسماء»، والكل يعرف خزائن السماء وما ينزل منها من أمطار تحيل الصحاري إلى مروج وجداول يقتات عليها الناس ردحاً من الزمن وهم في سعة رزق وبركة، ولكن لا أحد يعرف ما سوف يتفجر من خزائن الأرض، ولكنها مقولة ساقها الله على لسان المرأة الصالحة، وبالفعل بعد سنوات قلائل أصبح لدى المملكة أكبر وأغزر بئر بترول في العالم، ولا زال ينتج إلى يومنا هذا - بحمد الله -.
وقد شهد الملك عبد العزيز - رحمه الله - تدفق البترول من البئر ثم أصبح للبئر إخوة وأخوات، وتفجرت خزائن الأرض مع خزائن السماء، ونعم الناس بالأمن والأمان، برغد العيش، وتوافر الأعمال، وبدأت النهضة التعليمية تشق طريقها محققة نجاحاً تلو النجاح، وانتشر العمران، والتجارة، وشقت الطرق، وتقاربت المدن، واتسعت وكثرت السيارات بشكل كبير، وأنشئت سكة الحديد، وكذلك خطوط الطيران، وأقيمت الموانئ الجوية والبحرية، وازداد تواصل الناس في هذه المملكة المترامية الأطراف، حيث الأمن والأمان، وامتد تواصلهم إلى البلدان الشقيقة المجاورة والبلدان الأخرى؛ سعياً لطلب الرزق والمعرفة وكبرت الأسر، وازدادت أعداد الأسرة الكبيرة الحاكمة التي أحبها الناس وألفوها.
أذكر أن الملك سعود - رحمه الله - قام بجولة تفقدية لمعظم المدن والقرى القريبة من الرياض، وشملت زياراته التفقدية إقليم سدير والقصيم والوشم وأماكن أخرى، وكان الملك سعود مثل والده عبد العزيز محباً للشعب، عطوفاً عليه محباً للإحسان، قريباً إلى قلوب الناس، وكانت المدن في هذه الأقاليم تتنافس في إقامة المهرجانات والزينات مرحبة بقدم ولي العهد، وكانت تصحبه شاحنات كبيرة محملة بالمواد التموينية والأقمشة الرجالية والنسائية، وفي كل مدينة وقرية يتوقف فيها يوزع المال والغذاء والكساء، ولم ينسَ طلاب المدارس ومعلميهم، وكانت هذه لفتة كريمة مباركة منه، فكل طالب خصص له عشرين ريالاً فضة، وكانت الأسرة المحظوظة التي لديها أبناء في المدارس، وكنا ثلاثة أخوة في المدرسة، فكان نصيبنا ستين ريالاً، أعطى إخوتي والدي أربعين منها، وأعطيت والدتي - عليهما رحمة الله - العشرين الخاصة بي وكانت فرحة لا تنسى، مضت الأيام والسنون سراعاً، وتخرجت من الجامعة بعدما كنت في أحد أفواج البعثات التعليمية الكثيرة والكبيرة التي أرسلتها المملكة إلى جميع دول العالم المتحضرة سعياً للرقي ببلادنا الغالية، وكان أن كتب الله لي أن أسكن بعد سنوات في حي الرحمانية بالقرب من قصر أمير يتسامى إنه عبد العزيز بن سلمان بن عبد العزيز وزير الطاقة، عرفته عن قرب، يتحلى بكل الصفات التي ينشدها كل ذي لب، صاحب طاعة، وعلى خلق قويم، محب للخير ومساعدة الآخرين، كثير التواضع محبوباً لدى من يعرفه ومن لا يعرفه، لأنهم يرون فيه طاعة الخالق، ومحبته الخلق سواء كان سعودياً أو وافداً، كثير التريض، يمشى داخل الحي لأكثر من ساعة يومياً إلا ما قل، وفي يوم من الأيام وهو يمشي قابل أحد الوافدين وكأنه لاحظ عليه أنه يعاني من مرض في عينه فقال له سلامات ما بك، وشرح له الوافد ما بعينه من أذى، فكتب معه رسالة إلى مدير مستشفى الملك خالد للعيون، هذا الصرح الذي طبَّقت شهرتُه العالم ويأتيه الناس من جميع أرجاء المملكة وخارجها للاستشفاء، مثله مثل شقيقه مستشفى الملك فيصل ذي الشهرة العالمية وتم علاجه.
وفي يوم من الأيام قابلته وهو يسير مسرعاً إلى أحد المساجد القريبة من سكني، وكان بشوشاً ودوداً كعادته التي هي سجية من سجاياه وسجايا كثير من آل سعود، وقد تربى على يد ملك الحزم والعزم سلمان بن عبد العزيز، وقبل أن نصل إلى باب المسجد رأيته يحث الخطى فقلت له ما الأمر، فقال رأيت سيارة عائلة عند أحد المنازل وأنهن يردن النزول منها فخشيت أن أرى شيئاً من جسم إحداهن، وكان قد وضع غترته كحائل حتى لا يرى شيئاً، فقلت له إذا رأيت شيئاً رغماً عنك فلا يضيرك، قال وإن كان، فأيقنت ساعتها أن أخلاق الملوك وأبناء الملوك الذين تشربوا التربية الإسلامية الصحيحة تزيدهم وقاراً على وقار وهيبة على هيبة، وهكذا هم ملوكنا وأبناء ملوكنا ممن حباهم الله بفضل الطاعة ومحبة الخالق إن شاء الله ومحبة الخلق.
وأذكر في يوم من الأيام أنه طلب مني إذا كنت أعرف مدرساً لتحفيظ القرآن ليدرس أبناءه، هكذا هم بيت آل سعود أهل دين وكرم ومروءة، ويعلم الله أني لم أقل هذا الكلام تزلفاً ولا استشرافاً لعطايا، فأنا - ولله الحمد والمنة - لدي ما يكفيني ويزيد، وأنا الآن في خريف العمر، أسال الله لي ولمن يقرأ هذه الكلمات أن يجعلنا هداة مهتدين وبنبينا وصحابته الأجلاء مقتدين ولوطننا وقادتنا خادمين مخلصين.