اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
يتأثر القرين من قرينه من حيث التشبه والاقتداء، والنفس البشرية أمارة بالسوء، والشر بالنسبة إليها يكاد يكون طبعاً والخير تكلفاً وتعلماً، مما يستدعي من المرء أن يجد ويجتهد في سبيل اكتساب الخير والاستفادة منه على النحو الذي يجعل نفسه تألفه وتعتاده من خلال الدراسة والممارسة ليحل الخير محل الشر، بحيث يتحول مع الأيام من حالة إلى سجية وطبيعة.
ومن دون إجهاد النفس وتوطينها على طلب الخير واكتسابه يقل نصيبها منه إلى الحد الذي تكون معه أقرب إلى الشر لأن غياب تحصيل الخير والعمل من أجله يقود إلى خلو النفس منه وميولها إلى هواها الذي يعني وجود الشر وانعدام الخير نتيجة للفراغ الذي يجلب الفساد والشر.
وعلى هذا الأساس فإن نفس المرء تتشبه بنفس قرينه وتقتدي بها والشر عادةً ما يكون أسرع إليها من الخير، نظراً لأن عدوى الطبع تسري بين الأصحاب والجلساء بشكل تكون معه الغلبة للطبع الأقوى، والشرير غالباً ما يكون أكثر تأثيراً في جليسه، الأمر الذي يتطلب اتقاء مجالسة الأشرار والابتعاد عن مخالطتهم، تفادياً لما قد ينعكس على طبع المرء من طبع الشرير، إذ إن طبع القرين يتأثر من طبع قرينه حتى أنه يختلس منه وهو لا يدري، مع الأخذ في الحسبان أن صحبة الأصحاب تورث خيراً أو شراً كالريح إذا مرت على رائحة طيبة حملتها، وإن مرت على عكس ذلك حملته، وقد ورد أوضح وصف للجليس الصالح والجليس السوء في حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي شبه فيه الأول بحامل المسك والثاني بنافخ الكير.
وكما هو معروف أن الصاحب ساحب، ربما ينفع أو يضر فهو إما قرين صالح يسعد بمجالسته الجليس، ويستأنس له الأنيس، أو شقي يشقى به من يجالسه، ويجلب الوحشة إلى من يريد منه المؤانسة، وقد قال على بن أبي طالب: يسعد الرجل بمصاحبة السعيد، وقيل: من خير حظ أمرئ قرين صالح، وقيل: رب وحدة أنفع من جليس ووحشة أنفع من أنيس، وقد قال الشاعر:
تنزه عن مجالسة اللئام
وألمم بالكرام بني الكرام
وقال آخر:
ووحدة المرء بلا أنيس
خير له من سيء الجليس
وكل قرين ينطبق عليه ما ينطبق على الجليس، وليس كل جليس يعدُ قريناً، وفي كلتا الحالتين فالمرء عندما يجالس صاحب خلق ودين وعلم فإنه يستفيد من مجالسته، وكلما ارتفع مقام هذا الجليس كلما تضاعفت الاستفادة التي يحصل عليها الأدنى من الأعلى مع التركيز على القدوة في القول والفعل بوصفها تلعب دوراً يتضح مدلوله ويفعل مفعوله بين القرناء والجلساء عن طريق تأثير الجليس في جليسه تأثيراً إلى الخير يدفعه وعن الشر يردعه.
والجليس الصالح يدعو جليسه إلى الخير وينهاه عن الشر من خلال ما يتضمنه أدب المجالسة والمحادثة الذي يتجسد في الحرص على التمسك بأفضل المناقب والبعد عن المثالب بصورة تساعد على تبادل الرأي الصائب من أجل إصلاح حال الجليس ومساعدته على مواجهة ما ينتابه من نوائب وتذليل ما يعترضه من مصاعب.
والأخيار إن لم يستفد المرء من مجالستهم ومخالطتهم فلن يخسر شيئاً لأن التعامل معهم مثل المتاجرة بالطيب الذي إن لم يحصل المتاجر به على الربح والكسب لم يفته الريح الطيب، وهذا هو حال مَنْ يجالس الأخيار، خاصة من أصحاب المكانة الاجتماعية والدينية والعلمية، كما أن مجالسة الإنسان لنظرائه ومن هم دونه من هؤلاء الأخيار يجد من بينهم من يسدي إليه النصيحة، ويحثه على فعل ما يجمل ويزين، وترك ما يدنس ويشين، إضافة إلى ما يلقاه منهم من المواساة عند الشدة وإقالة العثرة وستر العورة وسد الخلة.
والطيور على أشكالها تقع، والإنسان عادة ما يميل إلى من يشاكله ويشابهه حتى أنه يُظن به ما يُظن بقرينه، ويُستدل بأحدهما على الآخر، الأمر الذي تبرز معه ضرورة أن يُحسن اختيار الإنسان من يصاحب ويجالس، تحسُّباً للعواقب حيث إن هناك الكثير ممن دخلوا السجون، وهناك من ضاع مستقبلهم بسبب أصحاب السوء، وقد قال أحد الحكماء: لا أوحش من قرين السوء ولا يؤذي الإنسان ويغلبه مثل صاحب الخلق السوء، وقد قال الشاعر:
من لم تجانسه فاحذر أن تجالسه
فالشمع لم يحترق إلا من الفتل
وقال آخر:
خف من جليسك واصمت أن بُليت به
فالعيّ أفضل مما يجلب اللسن
والعاقل يحسب خطواته في هذا الاتجاه، فلا يتخذ قريناً إلا من يثق فيه ويطمئن إليه، جاعلاً منه صاحباً مناسباً يهديه إلى طريق الهدى، لا صاحباً ساحباً يسحبه إلى مهاوي الردى، ولن تتوفر الثقة والاطمئنان إلا فيمن يؤمن غدره وغب أمره وبوائق شره، وقد قال أحد الحكماء: قرناء الرجل بمنزلة الشعر من جسده، منه ما يخدم ويكرم، ومنه ما يُخفى وينفى، وقال الأصمعي: كان يقال: الصاحب رقعة في قميص الرجل فلينظر بما يرقع قميصه، وكما قال الشاعر:
يقاس المرء بالمرء
إذا مالمرء ما شاه
وللقلب على القلب
دليل حين يلقاه
ولكي تستقيم المعاملة بين الأصحاب، والصحبة يحسب لها حساب، وحتى لا يشقى المرء بمن يصاحب ولا تشطح به المذاهب ويغرق في المتاعب، فقد تم تصنيف الصحبة من منظور تربوي وفقاً لعدد من التصنيفات حالما تكون الصحبة لازمة والمعاملة قائمة، وذلك بما يتناسب مع حال الذي تجري مصاحبته والواقع الذي هو فيه من حيث المكانة الاجتماعية والعلم والجهل والغنى والفقر حيث قال أحد الأئمة: إن كان صاحبك فوقك فاصحبه بالحرمة، وإن كان مثلك فاصحبه بالوفاء، وإن كان دونك فاصحبه بالمرحمة، وإن كان عالماً فاصحبه بالخدمة، وإن كان جاهلاً فاصحبه بالسياسة، وإن كان غنياً فاصحبه بالزهد فيما عنده، وإن كان فقيراً فاصحبه بالسخاء.