عبدالرحمن الحبيب
منذ التسعينات، بدت العولمة قوة مندفعة لا تقهر ولا يمكن إيقافها وأصبح العالم والاقتصاد العالمي أكثر ترابطًا، لكن الموجة الشعبوية والسياسات الاقتصادية الحمائية والانعزالية أظهرت كما لو أن العولمة هشة سيتم تجزئتها إلى مناطق اقتصادية أصغر وشبكات إنترنت داخلية. هناك من يؤكد أن ذلك مجرد عرقلة للعولمة التي ستمضي قدماً فتكاليف إلغائها باهظة وأقرب للمستحيلة. إلا أن ثمة من يرى أن العولمة وصلت إلى حدها الطبيعي وبلغت ذروتها، ومن غير المرجح أن تصبح تدفقات رأس المال أكثر عولمة، بالنظر إلى التنظيم الذي تم تنفيذه بعد الأزمة المالية لزيادة الاستقرار في النظام المالي العالمي.
ماذا يعني أن العولمة وصلت إلى «الحد الطبيعي»؟ إذا كانت الرقمنة تعزز التجارة الدولية في الخدمات، فإن أغلب قطاعات الخدمات غير متأثرة بذلك، لأنها بطبيعتها محلية، فعلى سبيل المثال، لا يمكن إجراء قصة الشعر إلا عند الحلاق المحلي، وقس على ذلك الرعاية الصحية أو تقديم طلبات الطعام. من هنا برزت الأسئلة عن مستقبل العولمة: هل ستستمر في التقدم أم تتراجع أم أنها بلغت ذروتها؟
تاريخ العولمة قد يوفر بعض اللمحات عن مستقبلها، إذ توضح الباحثة جيسيكا فان دير شالك (موقع الدراسات المستقبلية، فيردم لاب) أنه بين عامي 1970 و2008، زادت التجارة العالمية كحصة من الناتج المحلي الإجمالي من 27 في المائة إلى 61 في المائة. ومع ذلك، ففي العقد الماضي أعقاب الأزمة المالية العالمية، استقرت التجارة العالمية كحصة من الناتج المحلي الإجمالي وانخفضت قليلاً إلى نحو 58 في المائة.. وقد سميت هذه الظاهرة «بالاعتدال الكبير» مدفوعة بالتحولات الهيكلية والمؤسسية لنظام التجارة العالمي تحت الهيمنة الأمريكية، وتحرير وتكامل الاقتصادات العالمية (مثل الصين في 1978، والهند في 1991).
طفرة العولمة الكبرى شهدها العالم حين حولته التكنولوجيا الرقمية والنظام العالمي النيوليبرالي إلى «قرية عالمية»، منذ التسعينيات، إذ تضاعفت درجة التكامل الاجتماعي والسياسي تقريبًا واستمرت في النمو، على الرغم من استقرار درجة العولمة الاقتصادية وحتى انخفاضها النسبي منذ عام 2007.
بصورة عامة، تحدد شالك ثلاث موجات من العولمة وتراجعها. بداية في القرن التاسع عشر، مع الثورة الصناعية، والسفن البخارية والسكك الحديدية، والنمو السكاني السريع والإمبريالية الأوروبية، والتي انتهت بالتوجه العالمي للانعزالية بالثلاثينيات بعد الكساد الكبير. انطلقت الموجة الثانية بعد الحرب العالمية الثانية حتى السبعينيات، مدفوعة بتكامل الدول الأوروبية وظهور نظام بريتون وودز الذي أسس قواعد للعلاقات التجارية والمالية بين الدول الصناعية الكبرى بمنتصف القرن العشرين؛ وانتهت بما سُمي «صدمة نيكسون» وهي سلسلة من التدابير الاقتصادية عام 1971، وأهمها كان إلغاء التحويل الدولي المباشر من الدولار الأمريكي إلى الذهب.
جاءت المرحلة الأخيرة بعد سقوط جدار برلين والانهيار الداخلي للاتحاد السوفيتي وكانت مدفوعة بمزيد من الابتكارات في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي خفضت تكاليف المعاملات. كما أن التوجه النيوليبرالي الذي دعا إلى الانفتاح على كل من التجارة وتدفقات رأس المال، دفع آسيا والأسواق الناشئة الأخرى للانفتاح على الاقتصاد العالمي. وعلى هذا النحو، كان هناك مسار تصاعدي واضح نحو المزيد من العولمة والتكامل الاقتصادي والسياسي.
ومع ذلك، فإن الحرب التجارية الأخيرة التي شنتها أمريكا ضد الصين والإجراءات الانعزالية على نحو متزايد، وصعود الشعبوية المناهضة للعولمة، فضلاً عن رد الفعل العكسي الأوسع ضد التعددية والتكامل الاقتصادي والسياسي، يغذي المخاوف من أن عملية العولمة هذه سوف تتوقف أو حتى تتراجع، وأن النظام التجاري العالمي سوف ينهار إلى مناطق أصغر من التكامل الاقتصادي المكثف، إضافة إلى التخوف من أن الإنترنت سوف يتحلل إلى شبكات داخلية أصغر، أو أن التقنيات المستقبلية ستكون ذات طبيعة أقل عالمية لأن مناطق مختلفة ستطور معاييرها وقواعدها الخاصة للتطوير والتنفيذ. سيؤدي هذا إلى تخصيص أقل كفاءة لرأس المال، فضلاً عن تقليل الأحجام الاقتصادية.
وتنبه شالك ألا ننسى أنه تم بالفعل اتخاذ خطوات رئيسية لدمج البلدان والاقتصادات في الاقتصاد العالمي والنظام السياسي. وبالمثل فإن سلاسل الإنتاج التي عززت التجارة العالمية معقدة للغاية، وتفكيكها لا يجتنى منه سواء فوائد هامشية، مقابل زيادة تكاليفها. كما أن التقنيات الجديدة (مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد والذكاء الاصطناعي والروبوتات) يمكن أن تؤدي إلى إعادة الإنتاج إلى البلدان الأصلية، مما قد يعكس عملية «الاستعانة بمصادر خارجية» للإنتاج إلى بلدان أخرى. أخيرًا، من غير المرجح أن تصبح تدفقات رأس المال أكثر عولمة، بالنظر إلى التنظيم الذي تم تنفيذه بعد الأزمة المالية لزيادة الاستقرار في النظام المالي العالمي.
من كل ذلك تخلص شالك إلى أن العولمة قد وصلت إلى «الحد الطبيعي»، إلا أنها ترى أن هناك أسبابًا للاعتقاد بأن نهاية تمدد العولمة ليست حتمية، فتاريخ العولمة يظهر أن المراحل السابقة من إزالة العولمة كانت مدفوعة في الغالب بقرارات سياسية، ولا يوجد محرك «داخلي» يمكن أن يؤدي إلى إزالتها. علاوة على ذلك، فمع تقدم الصين في سلسلة القيمة، تتغير مصالحها الجيوستراتيجية، بعد أن أصبحت الصين مصنع العالم، وبدأت في طرح بنية تحتية عالمية في شكل مبادرة الحزام والطريق، مما يشكل دعماً للعولمة.. ولهذا الموضوع بقية..