د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
في رواق من أمن المكان وجمال مناخه وتنوع تضاريسه كانت صحارى نجد بنجادها وهضابها رفيقة المطر، صديقة الغيم تختال حين يرتادها ملوك هذه البلاد تستلُّ شغفهم ليشدّوا الرحال إلى مغانيها فيكتال أرواحهم النسيم الطري المنساب منها، وحتى لا نجافي مقتضيات التأريخ؛ فالنقل الدقيق يسرد لنا أن تلك المرتبعات استقبلتْ الساسة والعلماء والأدباء والمفكرين الوافدين على الملك المؤسس رحمه الله عندما يرتحلُ للمفاوز المعشوشبة في تلك الصحارى التي تسمتْ بالروضات تأسيسا على ما فيها من مقومات الطبيعة الفاتنة فقد سجل التاريخ صورا جميلة لتلك السرادقات من الخيام التي احتضنتْ قصص الحكم الرشيد والحاكم المثقف الفطن، وسجّلتْ للتاريخ الملكي السعودي صورا مضيئة من الاحتفاءات بالعلماء والأدباء وكل أنداء الثقافات القادمة إلى بلادنا، وفيما نطقه التاريخ بدتْ تجليات الترحال في تخوم الصحارى النجدية، وحين يفتتح الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن الحدث والحديث فمثلما يشد الترحال لحزون الصحارى النجدية ينتظم رجاله طيّبَ الله ثراه في صفوفهم من أبعد نقطة على ضفاف تلك الصحارى ليتستقبلوا الشيم والمروءات مع خبايا الطبيعة الجميلة. ولذلك جاس في مخيال الذاكرة حين القراءة المركزة وجود مواقع سياحية لابدّ أن تندرج تحت حديث التأسيس وبناء الدولة فقد تسمتْ بعض المواقع والروضات بالمواقع الكبرى التي قادها المؤسس الملك عبدالعزيز وانتصر فيها ليوطد أركان الدولة السعودية ومن أشهر المواقع الصحراوية روضة «السَّبَلَة» التي نُسبت إليها المعركة الحربية؛ ومما ذكره الأديب المؤرخ عبدالله بن خميس صاحب معجم اليمامة أن الملك المؤسس كمن في جبل «أبي غارب» الذي يقع في أعلى وادي «دعكنة» ليلة هجومه لفتح الرياض، ويذكر ابن خميس أنه شخصيا وقف على ذلك المكمن مع بعض رفقة الملك عبدالعزيز الذين فتحوا الرياض وكانوا جميعا في رفقة سمو الأمير متعب بن عبدالعزيز لتحقيق ذلك المكان رحمهم الله جميعا، وهناك روضة «التنهاة» من أجمل رياض نجد وأخصبها وأحسنها موقعا كانت متنزها مفضلا للملك المؤسس يقيم بها شهورا أيام الربيع وتنبتُ خيامه في جوانبها ويجتمعُ حوله شيوخ القبائل ورجال العرب بادية وحاضرة يكتنفون الخيام على شكل ندوات وأندية يتطارحون أحاديث الشجاعة والفروسية ويتجاذبون من قصص العرب أحلاها وأمتعها وينشدون الأشعار ويتناقلون الأخبار، وهناك خيمة في رأس رابية رملية تحيط بهالخيام؛ تلك الخيمة تستقبل كل يوم موكب الملك عبدالعزيز مرتين من حين ترتفع الشمس إلى ما بعد صلاة الظهر ومن بعد صلاة العصر إلى حوالي الساعة الثامنة بعد الغروب، تفتتح تلك الجلسات بالقراءة في أمهات كتب التفسير والتاريخ والأدب ويستمع الملك بعدها إلى قراءة مباشرة لنشرة إخبارية بآخر أخبار العالم أعدها بعض خاصته، ولا يخلو مجلس الملك المؤسس من وفود جاءوا من داخل البلاد أو خارجها يحفهم اللطف والإكرام وتحيطهم الهيبة والوقار، ويذكر ابن خميس في معجم اليمامة احتضان سياسي آخر على أرض التنهاة يقول: (كان من المشاهد التي حضرتُها عام 1359 وكنتُ شابا لم أثغر بعد! أن جاءت طائرة تقتحم أجواء تلك المناطق لأول مرة، وكانت تحمل السيد (نوري السعيد) ليفاوض الملك عبدالعزيز في قضايا تتعلق بشئون البلدين نتج عن الزيارة معاهدة حل قضايا عشائر الحدود التي وُقّعَتْ في صفر 1359، فاستقبل منبسط روضة التنهاة الغربي تلك الطائرة.. وآخر النهار امتطى بعض الأمراء تلك الطائرة فحلقت بهم في أجواء التنهاة وكان الحديث عن الطائرة كيف تحركتْ؟ وكيف طارت؟ وكيف هبطتْ؟ وما دار في خلدهم أن بلادنا ستملك اسطولا جويا لا يوجد له مثيل كثرةً وحداثةً واستعدادا ولله في خلقه شئون، وقد مدح الشاعر اللبناني فؤاد الخطيب الملك عبدالعزيز عند زيارته للتنهاة قائلا:
حُييتِ ياروضة التنهاة زاهيةً
بابن السعود المليك الأوحد البطل
لما أطلّ لمحتُ الغيبَ يأذن لي
بنظرة من خلال الأعصر الأولِ
أبصرتُ ما حدّث التاريخُ مجتمعا
عن الصحابة والإسلام في رجلِ
ولو انتقلنا إلى مرتبع صحراوي آخر للملك المؤسس وهو «روضة الخفس» وتبعد عن الرياض العاصمة 80 كيلا حين ألف الأستاذ الشاعر فؤاد شاكر كتابا أسماه (رحلة الربيع) وحلّى الكتاب بقوله:
فيا سائلي عن نجد أو عن رياضها
فديتُك هذا بعض ما في ربا نجدُ
وطبع الكتاب عام 1365 وصدّره الكاتب الكبير عباس العقاد، ويقع الكتاب في 250 صفحة فيه وصف للخفس وأيام الخفس ولياليه ومجالس الأدب ومطارحات الشعر ومساجلاته ومسامراته وفيه حوليات وتحيات ولقطات من وحي «روضة الخفس».
وهذه الفيض والمشاهد تتكرر حينا في روضة «الخفس»وحينا في روضة «خريم» وروضة «السبلة» «والشوكي» وغيرها كثير؛ وحتما سوف يقصر بنا الحصر الدقيق وشكول المكونات الطبيعية الصحراوية التي أنسنها مؤسس هذه البلاد وأبناؤه الملوك من بعده فاستنطقوها لتكون صوتا جديرا بالاستماع والمشاهدة..
وفي ذلكم السياق حزمة من الإشارات المهمة في أهمية تتبع الحكايات الباسقة عن السياحة المنتجة سياسيا وثقافيا في ذلك العهد التي لم تحملها وسائل الإعلام ولم ترصدها الأقمار الصناعية ولم تتلقف أخبار منتدياتها وندواتها ومساجلاتها واتفاقياتها أي منصة إعلامية تبثُّ عبر الأثير؛ بل كانت تتكئ على الرواية والمشافهة والتدوين في قليل منها، فيلزمنا اليوم تشكيل صورة ذهنية حديثة عن تلك المواقع النابضة بأجزاء فاخرة من تاريخ بلادنا وذلك باعتماد حزمة من البرامج والخطط الاستراتيجية التي تعيد السياحة المنتجة لتلك المواقع وإعادة صياغة تاريخها أمام الأجيال من خلال الدراما والفنون التشكيلية والمهرجانات الناطقة والإعلام الحديث الفوار، وإحياء مؤلفات من استظل وكتب عنها من مثقفي الخارج وهو في معية الملك المؤسس وضيافته؛ وأحسبُ أن بيت التاريخ السعودي (دارة الملك عبدالعزيز) تملك تكشيفا دقيقا للمحتوى التاريخي لتلك الحقبة من الزمن يمكن لوزارة السياحة الانطلاق من خلاله واستخلاصه لبث النبض السياحي في تلك المرتبعات الصحراوية الوطنية!