إلى اللحظة التي بدأت فيها بالنقر على لوحة المفاتيح لم تكن المادة في ذهني واضحة ومستوفاة العناصر؛ لمعطيات عديدة، منها:-
1- يخفى على كثير منا أن هناك خلطًا شائكًا بين المفاهيم والمصطلحات المستعارة للحركات النسائية التي بدأت عالميًّا منذ القرن التاسع عشر، وطالبت فيه المرأة بحقها في التصويت والانتخاب والتعليم، والموجة الثانية للحركات النسوية (feminism) التي يعود بدايات ظهورها للأربعينيات من القرن الماضي منذ صدور كتاب (الجنس الآخر) لأيقونة الحركات النسوية وذات الحياة الخاصة المثيرة للجدل (سيمون دي بوفوار) رفيقة جان بول سارتر الوجودي. وأثناء مشاهدتي عبر اليوتيوب لأحد اللقاءات المتلفزة عام 1975 معها أكدت فيه أن «الفتاة منذ صغرها تعد للدور الكبير الذي يلعبه السياق الاجتماعي في تحديد مسار الفتاة، الذي بدوره ساعد الرجل في إقصاء المرأة وقمعها على مستوى العالم، وإن كانت المرأة هي من تحمل وتلد - وهذا دور أساسي - فإن ذلك لا يبرر قمعها وإبقاء حالها مرتهنًا بالوضع المادي للرجل من فقر أو رفاهية»! وفي إجابة منها عن سؤال الصحفي فيما إذا كانت عملية القمع متعمدة لدى الرجل وليست أمرًا عرضيًّا؟ أجابت بأن ذلك يعود في تاريخه إلى عصور موغلة في القدم، كانت فيها القوة الفيزيائية هي مصدر للتفاضل، وفي وقت كانت الموارد فيه شحيحة فتمت عملية الإقصاء من حينها من قِبل الرجل. وضربت لتأكيد كلامها مثالاً من العصور الوسطى لنساء نبغن في مجال الطب، ولكن قام الرجال بسرقة أعمالهن ونسبتها لهم! كما أنه في القرنين السابع عشر والثامن عشر تم حظر مزاولة مهنة الطب للنساء؛ لأن القوانين كانت تصاغ من قِبل الرجل آنذاك. واستطردت في تناولها لصور القمع بالقول إن النساء هن مَن يُعلّمن بعضهن ذلك باعتبار أن المرأة التي لا تتماثل معهن هي مسخ، وهذا يتم بضغط من الرجال؛ لأن الرجال هم من يعلّمون النساء ماهيتهن، من خلال تقبّل القمع وإنكار الذات، وغير ذلك. وقد سعى الرجال لعدم استقلال النساء مادياً، والاكتفاء بالعمل المنزلي دون أن يتقاضين راتباً، واصفة هذه الحياة للمرأة بأنها عقوبة بالسجن مدى الحياة، حاكمة على عمل المرأة بالبيت بأنه «غير اقتصادي وغير مثير للاهتمام باعتباره روتينيًّا ومملاً». وكتابها (الجنس الآخر) تتضمن فصوله الأولى تعدادًا لصور قمع المرأة عبر التاريخ. هذا الكتاب الذي أثار ضجة واسعة، يتضمن مواقفها كافة حول الإجهاض وحقوق المرأة.
2- المتتبع للحركة النسوية العالمية لا يساوره شك بأنها وإن بدت للوهلة الأولى تحت غطاء استرجاع الحقوق الأساسية للمرأة إلا أنها على أرض الواقع هي حركات تسعى لشيطنة الرجل، وتسمح بصورة مطلقة للمرأة باستخدام حريتها كاملة فهو حق لها، ولها حق الإجهاض، وغير ذلك! فهذه الحركات لم تعد ذات حراك نشط وفاعل في المجتمعات الغربية فحسب بل قد امتلكت أسلحة أيديولوجية فاعلة وقوى عالمية محركة.
3- إلا أنه من الملاحظ لكل من يتناول الموضوع من منطلق موضوعي وبإنصاف أن من تكلم في هذا الشأن من المهتمين هم من الرجال، وهم إما أن يغالي في التحذير من الاستجابة لأي دعوة تحوم حول حقوق النساء، وكأنهم بذلك يسارعون في سد هذا الباب قبل أن يهم أي باحث متجرد ويشرع أي مهتم منصف بفتحه، فهم في كل أدلتهم يكتفون برصد تاريخ الحركات النسوية الغربية، ومآلاتها، وسِيَر ومؤلفات رموزها المنحرفة، ويترجمون لذلك كل الكتب الغربية - ولاسيما الفرنسية والبريطانية منها - التي رصدت هذه الحركات وعارضتها، وهي ترجمات في الغالب حرفية، بعضها يُشعرك أثناء قراءتها بالدوار والغثيان معاً، حتى كأنك تمشي على أرض ألغام، مع محاولات مبالغة إلى حد ما تتضمن تحذيراً من الحركات النسوية التي تسعى لإحكام قبضتها على مرافق ومفاصل الدول كافة، حتى أننا لا نريد أن تُصدَّق تلك العبارة المنسوبة لبولان دو بولابار «يجب التشكيك بكل ما كتبه الرجال؛ لأنهم خصم وحكم في الوقت نفسه».
4- لم يشح المهتمون من الرجال وجوههم أو يَغِب عن عيونهم هذه «الحركات» كمنظمات نسائية منذ بدايات ظهورها ولو كانت لها مطالب نسائية بريئة تدعو لعدد من أبسط الحقوق الإنسانية، أهمها حق التعليم وحق المعاشرة بالمعروف والنفقة والحضانة، وكذلك حقوق ضرورية كحق المال في الإرث، وفوقه حق النفس وحرمتها. وأكثر من كتب في هذا وحذر منه وجند أنشطته كافة عقودًا طوالاً هم الرجال أنفسهم، ولاسيما الغيورين على النساء من أصحاب التوجه الديني. وقد رصدوا في وجه هذه المنظمات أو حتى الدعوات الفردية جميع وجوه الإدانة والتشكيك والتحذير من حتى الاقتراب من دائرته باعتبارها (مشبوهة). وتبعهم في ذلك باندفاع عاطفي مستميت نساء كُثر. ونحن لا نشكك في دوافع هؤلاء وحميتهم وإشفاقهم على النساء، وحمايتهم المجتمع والأخلاق، ولكن كأن هذا التشدد في الوصاية قد قابله تطرف في الرفض والصدود والإعراض من قِبل عدد لا يستهان به من النساء الناشطات في مجال حقوق النساء وغيرهن في الغرب. ويعود عدم استجابتهن بزعم أنهم - أي الرجال - في الأصل يرفضون دعوات الحقوق النسائية لأجل الإبقاء على امتيازاتهم الذكورية في الولاية وغيرها، وللمحافظة على حظوظهم التي تفردوا بها زمناً طويلاً في الاستئثار بتولي المناصب الرئاسية والوظائف القيادية المتنوعة، والاستيلاء على حق المرأة المالي، والاستفادة القصوى من خدماتها المجانية التي تقدمها في بيتها، وذلك باقتصارها على تربية أبنائها وخدمة زوجها، والصبر على جفائه وقسوته. وهذا تجنٍّ واضح، وتهميش لأدوار أخرى للمرأة، وحبس لطاقاتها الفكرية والنفسية والجسدية، وإقصاء لطموحاتها، وتقليص دائرة اهتماماتها، والتضييق عليها في أهدافها. ويكثرن من اقتباسات لمشاهير الفلاسفة والمنظّرين كعبارة فيتاغورست «هناك مبدأ جيد خلق النور والنظام والرجل، وهناك مبدأ سيئ خلق الظلام والفوضى والمرأة»، وغير ذلك.
وأمام هذين المبدأين المتطرفين، وبخلاف ما يجري في الغرب، قد تغيب الصورة المتزنة العادلة التي بناها الإسلام. ففي القرآن نزلت في شأنهن سورة النساء، تضمنت إقراراً لحقوقهن في الميراث، وأخرى في المجادلة، وثالثة في الطلاق، وأوصى نبي الرحمة - صلوات ربي وسلامه عليه - بالمرأة تحديداً، وكرر الوصاية حتى في لحظات حياته الأخيرة؛ لعلمه باستغلال الذكور من الرجال طبيعتهن، ووصفهن بشقائق الرجال، وكان يستمع لشكوى المرأة في زوجها، وأخرى ينزل عند رغبتها النفسية، ويحترم انصرافها عن زوجها، ويجعل الأمر لها في خلعه. وعُرف عمن تربين في محضنه كالسيدة عائشة - رضي الله عنها - وأزواجه، وسائر نساء الصحابة، بمشاركاتهن المجتمعية والفكرية والاقتصادية والعلمية والسياسية والحربية، وغير ذلك؛ فهن لم يُغيَّبن في مخادعهن، ولم تُقصَ قدراتهن وما وهبهن الله من إمكانيات ومواهب.
5- الظلم الواقع على المرأة عالمي، وله شواهد كثيرة، وتكذيب ذلك أو التقليل من تأثيره هو محض جحود وزيف ادعاء. وهذا الوضع سائد في الدول كافة في العالم، شرقاً وغرباً. والمرأة العربية جزء من هذا العالم. ولا نغفل عن التنبيه - ونقصد بذلك طلب التفهم والإعذار - وهو أن عدداً من المندفعات بحماسة لموضوع حقوق المرأة قد مررن بتجارب شخصية قديمة، تجرعن فيها مرارة الظلم والقهر والحرمان، ووقع ذلك عليهن أو على أمهاتهن، ولم يجدن إنصافاً، أو حتى إنصاتاً من جهة قانونية أو مجتمع.
6- الالتفات إلى المرأة بإعادة حقوقها كاملة، سواء الشخصية أو المهنية، وحقوقها القانونية، هو أكبر باب يوثق في مواجهة المخاوف؛ إذ مما يتردد بشأنه عدد من المهتمين بهذا الشأن هو أنه حين تظهر دعوات تناهض العنف، وتدعو لرفع الظلم، وإن بدأت بحركات نسائية بريئة، وقد يقودها قانونين ومحامون، بجانب مدافعات متزنات عن حقوق المرأة، إلا أنه قد يتسلل إلى القطار قُطّاع طرق من ذوي الأجندات الخفية الذين سيغيّرون وجهة السير نحو مطالبات (نسوية) لا علاقة لها بحقوق المرأة الفطرية والشرعية والقانونية. وفي الغالب يقف وراء هؤلاء أذرع رأسمالية وتغريبية عالمية، لهم أجندات عدائية، وطرائق تمويل مستترة وخفية، ومن أهدافها - فضلاً عن الإفساد الأخلاقي، واستبدال الإنتاج والادخار بمزيد من الاستهلاك والقرض - السعي لفرض رؤية عالمية جديدة. وإحدى أضخم أدواتهم هي المرأة نفسها عن طريق ترسانة عملاقة معدة لذلك، هي الإعلام والدعاية، سواء كانت بصورتها التقليدية القديمة عن طريق الأفلام والأزياء والإعلانات، أو صورتها التقنية الحديثة، أو بعقد التحالفات الخفية الممولة مع عدد من نساء جريئات منفيات أو هاربات من مشاهير السوشيال ميديا.
** **
- هدى مستور
3laAlhuda@