خلق الله الإنس، وعلمهم البيان والمنطق والكلام؛ فهم يتحدثون باللغات، ويتواصلون بها، ويفهم بعضهم البعض في شؤون حياتهم أفراداً وجماعات، قبائل وشعوبًا ومجتمعات؛ فهي وسيلة التواصل والتفاهم؛ فلا غنى لهم عن اللغة وحديثها.. ولكن يمرُّ بالإنسان لحظات تتعطل معها لغة الكلام، ويتعذر عليه الحديث، ويصعب عليه الإفصاح عما يريد أو ما يدور في نفسه لسبب من الأسباب، فهل يا تُرى هناك لغة أخرى يستطيع الإنسان إيصال ما يريد إيصاله؟ هل للعيون لغة يستطيع من خلالها إيصال ما يريده؟ نعم، إن للعيون قدرة، وكأن بينها حواراً وحديثاً من خلال لغة العيون، تعرف من يحبك ومن يكرهك. ومن خلال لغة العيون تستطيع فهم الكثير من المشاعر، فعندما تتخاطب العيون تكون أبلغ وأصدق من أي حديث.
يقول الشاعر:
عَيناكِ قَد دَلَّتا عَينَيَّ مِنكِ عَلى
أَشياءَ لَولاهُما ما كُنتُ أَرويها
وَالعَينُ تَعلَمُ مِن عَينِ مُحَدِّثِها
إِن كانَ مِن حِزبِها أَو مِن أَعاديها
العيون هي مرآة القلب، تعكس ما فيه، وفيها تكمن التفاصيل والمشاعر المختلفة من حزن وسعادة وخوف وأمل ويأس وحُب وكره. وللعيون جمال فريد من نوعه. وقد أبدع شعراء العرب في وصف سحر وجمال العيون، وتغزلوا بها؛ فيقول أحدهم:
وإذا العيونُ تحدثت بلغاتها
قالت مقالًا لم يقلهُ خطيب
وقال عمر ابن أبي ربيعة:
أشارت بطرف العين خيفة أهلها
إشارة محزون ولم تتكلم
فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا
وأهلاً وسهلاً بالحبيب المتيم
ويقول الوراق:
إِنَّ العُيونَ عَلى القُلوبِ شَواهِدٌ
فَبَغيضُها لَكَ بَيِّنٌ وَحَبيبُها
وَإِذا تَلاحَظَتِ العُيونُ تَفاوَضَت
وَتَحَدَّثَت عَمّا تُجنُّ قُلوبُها
يَنطِقنَ وَالأَفواهُ صامِتَةٌ فَما
يَخفى عَلَيكَ بَرَيئُها وَمُريبُها
ويقول العباس بن الأحنف:
إشارتنا في الحب رمز عيوننا
وكل لبيب بالإشارة يفهمُ
حواجبنا تقضي الحوائج بيننا
ونحن سكوت والهوى يتكلمُ
فكل جمال ناقص المقدار ما لم تستوعبه العين.
ويكفيك أن أغزل بيت قالته العرب هو بيت لجرير، وكأنه حصر الجمال في العيون عن سائر أجزاء الجسد؛ إذ يقول:
إِنَّ العُيونَ الَّتي في طَرفِها حَوَرٌ
قَتَلنَنا ثُمَّ لَم يُحيِينَ قَتلانا
يَصرَعنَ ذا اللُبِّ حَتّى لا حِراكَ بِهِ
وَهُنَّ أَضعَفُ خَلقِ اللَهِ أَركانا
ويقول آخر:
لها مقلة لو أنها نظرت بها
إلى راهب قد صام لله وابتهل
لأصبح مفتوناً مغنَّى بحبها
كأن لم يصم لله يوماً ولم يصل
وهذا إليا أبو ماضي يصف موقفًا وقفه، وصمتًا أصابه، وكأنه لا يستطيع الكلام، ولكن العيون نطقت فقال:
هناك وقفنا والشِّفاه صوامت
كأنَّ بنا عيّاً وليس بنا وجدُ
سكتنا ولكنَّ العيونَ نواطق
أرق حديثٍ ما العُيون به تشدو
وهذا علي بن الجهم في قصيدته التي بدأها بوصفٍ جميل وفي غاية الرقة؛ إذ يقول:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وفي بيت آخر من القصيدة:
وأفضح من عين المحب لسره
ولاسيما إن أطلقت عبرة تجري
والعين لها دلالات؛ فالعين تتحدث، تدمع، تسخر، تخيف، تطمع، تشتهي، تبتهل وتحرس..
وأختم هذا المقال بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله».
وعبَّر بالعين إشارةً إلى غيرها، وخصها بالذكر؛ لأن العمل الظاهر يصدر منها.
جعلني الله وإياكم من أصحاب هاتين العينَين اللتين لا تمسهما النار. ودمتم.
** **
إبراهيم مفرج آل هدران - رئيس المجلس البلدي بمحافظة وادي الدواسر