د. أحمد محمد الألمعي
احتفل العالم الغربي الأسبوع الماضي بعيد الحب (فالنتين) كتجسيد لأهمية الحب والعاطفة في الثقافة الغربية، فخصص له يوم في كل سنة يحتفل به عيداً يتبادلون فيه الورود والشوكولاته، ويخرجون للنزهة والعشاء كمظهر من مظاهر هذا الاحتفال. في عالمنا الإسلامي، يعتبر هذا الاحتفال تقليداً للغرب وثقافة دخيلة. وفي ديننا الحنيف الكثير من الإشارات إلى أهمية الحب والعاطفة بين الزوجين {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} فلا يقتصر ذلك على يوم واحد في السنة، وهناك الكثير من النصوص التي تشير إلى الحب والعاطفة بين الأطفال والوالدين وأفراد الأسرة فلا تقتصر عاطفة الحب على الثقافة الغربية. ولست هنا بصدد نقاش موضوع الاحتفال بعيد الحب، سواء كان القارئ من المناهضين أو المؤيدين لهذه الأفكار، فالاحتفال يتم في أجزاء كبيرة من العالم والجدير بالذكر أن مظاهر الاحتفال هذ العام كانت بطابع مختلف ومقيد بدرجة كبيرة بسبب جائحة الكورونا.
وقد توارث الإنسان عاطفة الحب منذ بدأ الحضارة الإنسانية، وفي كل الثقافات بصور مختلفة ألهمت الشعراء والفنانين والأدباء على مر العصور، وأصبحت كلمة الكره من المفردات المحظورة في بعض الثقافات لما تمثله من قسوة في المشاعر والتعبير.
وللحب تعريفات كثيرة ومشاعر تشمل قوة الجاذبية التي لا يمكن تفسيرها، والرغبة في رعاية والعناية بالطرف الآخر، والإحساس بالسعادة المفرطة وتأثير سحري لرؤية الطرف الآخر وشعور بالحزن عند رؤية معاناته، فالحب عطاء وإيثار ولا يمكن أن يكون الحب أنانياً ومجرداً من المشاعر، وإلا أصبح الشخص أقل مرتبة من الحيوانات.
والحب عاطفة سامية تهذب الشهوة الحيوانية الجسدية، وتضعها في مسار أرقى ومعبر بهدف التطور بالشعور الإنساني وصولاً إلى الحضارات المتقدمة والبراءة والعذرية التي يتغنى بها الشعراء والفنانون. والحب ليس عاطفة تقتصر على بني الإنسان، فنرى الحيوانات تمتنع عن الأكل لدرجة الهزال والموت التدريجي حزناً على فراق شريكها وأبنائها.
وعلمياً، فإن وصف الحب كنوع من الجاذبية الكيميائية بين المتحابين ليس ببعيد عن الواقع، فهناك الفيرمونات وهي مواد كيميائية تفرز في الجسم تسبب رائحة معينة للشخص تجذب الجنس الآخر، وهناك هورمون الاوكسيتوسين والذي ترتفع نسبته في الدم عند المحبين ويسبب نوعاً من الإدمان والألفة تجاه الطرف الآخر ومن ثم الإحساس بالفقدان عند غيابه، وهناك موصلات عصبية في الدماغ مثل الدوبامين والذي يفرز بشكل كثيف ويجلب الإحساس بالمتعة والسعادة لرؤية الطرف الآخر، كما أن للحب تأثير على موصلات كيميائية أخرى في الدماغ، مثل السيروتونين والايبينفرين، يتسبب الإحساس بالحب في تغييرات في نسب هذه الموصلات العصبية بطريقة لا واعية.
وأود هنا تسليط الضوء على السمات الشخصية في العلاقات الرومانسية من زاوية نفسية. وتظهر الأبحاث نتائج متضاربة عند دراسة دور سمات الشخصية في العلاقات الرومانسية الناجحة. وهناك عدة نظريات لأسباب وقوع الناس في الحب منها أن الأشخاص ينجذبون للجنس الآخر بسبب الشبه للشخص نفسه أو أحد الوالدين، كما أن السمات الجسدية ومظهر الشخص عامل انجذاب، كالطول وشكل الوجه واللون وغيره من سمات الشكل، ولا ننسى الابتسامة التي تعني القبول والجذب، كما أن التعود على رؤية الشخص مثل الجيران وزملاء العمل ونوع الوظيفة لها دور، وأخيراً هناك صفات غير معروفة وفي اللاوعي لكل شخص تكون عاملاً في الوقوع في الحب.
والحديث عن السمات الشخصية في العلاقات الرومانسية طويل وعميق ومتشعب. وتظهر الأبحاث نتائج متضاربة عند دراسة دور سمات الشخصية في العلاقات الرومانسية الناجحة. فكان التركيز على تشابه السمات (أي مفهوم «الطيور على أشكالها تقع»)، مع قلة من الأبحاث التي تدعم مفهوم «جذب الأضداد». كما لوحظت عوامل إضافية، تشمل النضج العاطفي، وكيف تؤثر السمات غير القادرة على التكيف في العلاقة، واحترام الذات، وكيف يؤثر تصور الشريك على المشاعر حول العلاقة. وأظهرت مقاييس التحليل النفسي نتائج متضاربة في نفس الدراسات. وتشمل الثغرات في البحث تأثير الشخصية في العلاقات الزوجية، ولا يزال السؤال مطروحًا حول أفضل مزيج من شخصيتين فريدتين لخلق علاقة ثنائية جيدة.
إحدى نظريات الرومانسية الرائدة هي نظرية التشكيلة النشطة، وقد ركزت غالبية أبحاث هذه النظرية على أن الأشخاص في علاقة حب تكون شخصياتهم متشابهة. ويوضح الباحثون أنه كلما كان الزوجان أكثر تشابهًا، كلما زاد رضاهما عن العلاقة. وقدم العديد من العلماء أمثال ويدمان وليدرمان قائمة بالسمات المخصصة لفشل العلاقة وقائمة معاكسة من السمات التي تساهم في العلاقات الناجحة.
وبالإضافة إلى السمات الخمسة الرئيسية المذكورة في كثير من الأبحاث في هذا المجال، تم الاهتمام بمجموعة متنوعة من التركيبات لتشمل الذكاء العاطفي، والاندفاع، واحترام الذات، وكيف تؤثر الأفكار الفردية «للشريك المثالي» على الرضا.
الطيور على أشكالها تقع .. تشابه السمات
التزاوج المتنوع (homogamy) هو اختيار شريك بشخصية محددة يتجاوز ما نتوقع حدوثه بالصدفة، وهو الأساس في كثير من الأبحاث في فهم الرضا عن العلاقة بين الأزواج الرومانسيين. العالم ديريك وآخرون، يشير إلى أن الشركاء المتشابهين في الواقع قد يفسرون أفكار وسلوك بعضهم البعض بشكل أكثر دقة، مما يسمح لكلا الشريكين بالشعور بفهم أفضل وزيادة في تجاوب الشريك.
عند دراسة التوافق القائم على التشابه في اللياقة البدنية والشخصية والذكاء والخلفية الاجتماعية والمواقف والعادات ووسائل الترفيه، مقارنة بالأفراد المرتبطين عشوائياً، كان هناك تشابه كبير بين الأزواج، وكان أولئك الذين كانوا أكثر تشابهًا أكثر رضاءًا عن شريكهم.
الباحث مكراي وآخرون، وجد أن هناك أوجه تشابه قليلة بين شخصيات الأزواج عندما يتعلق الأمر بالسمات الخمسة الرئيسية للشخصية. عند البحث في جوانب الشخصية، في أربع ثقافات (هولندا والولايات المتحدة وجمهورية التشيك وروسيا)، تم العثور على تشابه في القيم والتوافق والمشاعر الإيجابية والكفاءة. وأشاروا إلى أن الأشخاص الذين لديهم جوانب من التوافق تشمل الصراحة والإيثار والتواضع والعقلية الرقيقة هم على الأرجح قادرون على العثور على رفيق بهذه السمات، على الرغم من أن معظم الناس يرغبون في هذه الصفات في الزوج.
في دراسة ركزت على الأزواج الأكبر سنًا، في العلاقات التي استمرت لأكثر من 30 عامًا، ساهم التكافؤ من عدة نواحي بما في ذلك وجود الضمير الحي والعقلية المنفتحة والمرنة في استمرار العلاقة. وقد لا يجد الأشخاص الذين يعانون من سمات غير قادرة على التكيف أو سيكوباتية بالضرورة هذه الصفات نفسها مرغوبة في شريك ولكن قد تؤدي إلى نوع من التوافق. وهناك أهمية لتقارب العمر والتعليم بالإضافة إلى سمات أخرى تساعد على دوام العلاقة.
الاندفاع وسوء التكيف
هو محور للعديد من الدراسات البحثية المتعلقة بجودة العلاقة قام بها الباحث لافنر وزملاؤه. وشملت تلك الدراسات جوانب مثل القلق والعدوانية وتقلب المزاج والوعي الذاتي والغضب والاندفاع وعدم القدرة على ضبط النفس، وغيرها من الصفات السلبية التي تؤدي إلى عدم القدرة على التكيف. ويرتبط الاندفاع السلوكي المتكرر بكثير من الخطورة، وعدم القدرة على التكيف مع سلوك الشريك، والمزيد من الخلافات، وزيادة العنف وعدم الاستقرار الأسري.
وترتبط الشخصية النرجسية في الأزواج تحديداً، وعدم الرضا عن العلاقة الزوجية في الزوجات، بدرجة أكبر من سلوك الخيانة الزوجية وقد يكون ذلك من جانب واحد في البداية ولكن ذلك يتغير مع مرور الوقت، بحيث تصبح الخيانة الزوجية سلوكاً متكرراً من الطرفين وتمثل تعبيراً عن عدم الرضا عن العلاقة الزوجية وعدم الاستقرار.
احترام الذات
تؤثر الطريقة التي نشعر بها تجاه أنفسنا بشكل كبير على الطريقة التي نمارس بها حياتنا، وبالتالي من المتوقع أن يكون لها تأثير مماثل على كيفية اختيار شركائنا وإرضاء علاقاتنا الرومانسية. بشكل عام، الأشخاص الذين يتمتعون بتقدير الذات العالي، سيختارون شركاء من نفس الشخصية، في حين أن أولئك الذين يتمتعون بتقدير منخفض لذاتهم سيرغبون في شريك (مختلف الشخصية) يمثل الصورة المثالية التي يرغبون بها كما أشار الباحثان كلونين ومندلسون. وقد أشار الباحث تايلور وزملاؤه إلى أن النساء اللاتي لا يتمتعن بتقدير ذاتي عالي قد يختارون الرجال من ذوي الشخصيات المسيطرة وفي بعض الأحيان يكونون ضحايا للعنف اللفظي والجسدي.
نموذج الشريك وتصور الشريك
كيف ينظر الشركاء الرومانسيون إلى بعضهم البعض في علاقتهم ويدركون أنفسهم من خلال عيون شركائهم (على الرغم من أن هذا التصور قد يكون بعيدًا عن الواقع) وصورتهم الذاتية لشريكهم وأنفسهم. وجد الباحثون موراي وهولمز وجريفين أن انطباعات الزوجين عن شركائهم، بدت وكأنها تعكس مزيجًا من «الواقع» و»الوهم». وأن الأفراد الذين كانوا يتمتعون بنظرة عالية لذاتهم، كانوا يحظون بتقدير كبيرمن قبل شركائهم. كما أنهم ينظرون إلى السمات التي يعتقد الشركاء أنها أكثر وصفًا للذات على أنها سمات لشريكهم. وكان الأفراد أكثر سعادة في علاقاتهم عندما نسجوا صورة مثالية للشريك في خيالهم.
من ناحية أخرى، يمكن أن تكون تصورات الشريك السلبية سبباً في انهيار العلاقة حسب دراسات الباحث ايس وآخرون. فقد وجدوا أن تصنيف الزوجات لصفات أزواجهن النفسية كان مرتبطًا بمعدلات أعلى من الطلاق في غضون 10 سنوات، مما يشير إلى أن الزوجات اللائي يعتبرن أزواجهن أكثر عدائية وحرمانًا يكونون أكثر عرضة للطلاق. الزوجات اللواتي يعتبرن أزواجهن متدنيين في التوافق والضمير، أي لديهم مستويات أعلى من السيكوباتية، قد يكونون غير راضين بشكل خاص على المدى الطويل عن زيجاتهم وأكثر عرضة للطلاق.
التغييرات في الشخصية
في حين تُعتبر سمات الشخصية الخمس الكبار سمات مستقرة بمرور الوقت، تشير الأبحاث الإضافية إلى أن شخصيات الأزواج تبدأ في التغيير مع أحداث الحياة الكبرى، ويمكن أن تؤدي الأحداث والتجارب والتوقعات في الحياة إلى تغييرات في سمات الشخصية، وتتفاوت التأثيرات بشكل كبير بين كل من أحداث الحياة وسمات الشخصية. بعض النظريات تشير إلى عوامل مزاجية أو وراثية جوهرية كما أشار الباحث لافنر، وتعزو نظريات أخرى هذه التغييرات إلى عوامل بيئية مثل الأدوار الأسرية والتجارب الاجتماعية.
وتنشأ التغييرات بسبب الاستعداد الوراثي للتغيير وبطرق معينة، وهي «تفاعلات داخلية تتبع مسارات جوهرية للتنمية مستقلة بشكل أساسي عن التأثيرات البيئية». وأشار فريدمان إلى أن الشخصية في العقود الخمسة الأولى من الحياة ليست بالضرورة الشخصية نفسها بعد نصف قرن. فيصبح الأشخاص عمومًا أقل عصبية مع تقدمهم في العمر، لذا فليس من المستغرب أن يصبح الناس أكثر حضوراً اجتماعياً، وإحساساً بالضمير، واستقراراً عاطفياً في الغالب في سن الرشد، ولكن أيضاً في منتصف العمر وكبار السن، كما يُنظر إليها على أنها عوامل حماية خارجية ضد الطلاق مع تقدم الوقت.
أثبتت الدراسات طويلة المدى مقدار تأثير أحداث الحياة على التغييرات في سمات الشخصية، كما ثبت أيضاً أن تجربة وجود علاقة عاطفية تعزز التغييرات في سمات الشخصية. الباحث روبينز اختبر ما إذا كان لعلاقة جيدة (مقابل سيئة) خلال أوائل العشرينات تأثير إيجابي (مقابل سلبي) على تنمية الشخصية. كان الأفراد الذين كانوا في علاقات غير قادرة على التكيف خلال أوائل العشرينات من العمر يميلون إلى أن يصبحوا أكثر عدوانية وسريعي الانفعال والنفور. الأشخاص الذين مروا بتجارب عاطفية سلبية، يميلون للعصبية ويفتقدون إلى القدرة على التعبير بطريقة فعالة من الذين يكونون في علاقات زوجية مستقرة عاطفيًا.
وباختصار، لا يبدو أن هناك إجابة شافية وشاملة للتأثير الذي تلعبه سمات الشخصية على العلاقات الرومانسية. فبينما ركزت الكثير من الأبحاث على التشابه بين الأزواج، يبدو أن هناك مزيجًا من تشابه السمات والاختلاف الذي تنفرد به كل علاقة، بالإضافة إلى ذلك، قد تكون السمات الشخصية الفعلية للشريك ذات صلة جزئية فقط فمن الواضح أن هناك عوامل أخرى.
إن إلقاء نظرة فاحصة على جوانب الشخصية سيوفر بلا شك نتائج أكثر شمولاً، على الرغم من أنها لن تكون كافية لفهم توافق الأزواج تمامًا. من المرجح أن يكون النهج الأكثر شمولية الذي يتضمن العديد من الأفكار التي تم ذكرها مثل العاطفة والاندفاع واحترام الذات، مع الأخذ في الاعتبار التغيير المحتمل في الشخصية بمرور الوقت وأحداث الحياة على مدى فترات زمنية طويلة أكثر إفادة. ويمكن تعليم الذكاء العاطفي والتحكم في الانفعالات، وزيادة احترام الذات وخفضها، كعوامل متغيرة محتملة.
ويبقى الشعور بالحب كلغز كبير يستمر عبر الأجيال، برغم التفسيرات العلمية الحديثة التي تظهر كل يوم، لأن النفس البشرية تفضل أن يبقى الحب والرومانسية كنوع من السحر، فعندما نصل إلى القدرة على تفكيك طلاسم هذ الإحساس الجميل، نكون قد فقدنا كل ما يميز هذه العاطفة البشرية عن غيرها من الأحاسيس.