الإرهابُ الحوثي.. أحفاد على خطى الأجداد
الإمامة الهادوية فكرة واحدة، تطلُّ بقرونها الشيطانية من منافذ عدة، تارة في هذا البيت، وتارة في ذاك، وخلال تاريخها تناوبت البيوتات الإمامية الحكم من بيت الرسي إلى بيت العياني، إلى أحمد بن سليمان، إلى الحمزات، إلى آل شرف الدين، إلى القاسميين إلى آل بدر الدين، وجميعهم في الإرهاب شرق. يستقون من فكرة واحدة، وينتمون إلى أصل واحد. جميعُهم -بلا استثناء- نكل باليمنيين وشردهم واستبد بهم، خلفًا عن سلف، ولا يزالون، مدعين الفضيلة، وتمثيل السماء في الأرض، في أسوأ حكم ثيوقراطي، يفوق بشاعة حكم الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى لأوروبا.
عدوى الإرهاب المتوارث
إنَّ العدوى النفسيّة كالعدوى الحسيّة المادية، تسري بين الجماعات كما يسري الوباء، والمرء يتقبل الأفكار أكثر كلما ترددت على مسامعه أكثر، لا كلما عُرضت على عقله، وخاصّة في مرحلة الطفولة، ووفقًا لجوستاف لوبون: «وعلى نسبة أفراد الجماعة يكون تأثير العدوى شديدا. ولا يلبث المعتقد الضعيف أن يصبح قويا بعد أن يكتسب الأفراد الذين يعتنقونه صفة الجماعة. والمعتقد بعد أن ينتشر بالعدوى لا يُلتفت إلى قيمته العقلية؛ إذ لما كانت العدوى تؤثر في دائرة اللاشعور فإنه لا شأن للعقل فيها..»(1).
وتزداد هذه العدوى ثباتا ورسوخًا في المجتمعات المنغلقة على نفسها والبدائية، والتي لا تنتشر فيها نوافذ الثقافة أو أضواء المعرفة، كما هو الشّأن في جبال شمال اليمن الحصينة التي ظلت مغلقة على نفسها فترة طويلة من الزمن، فباض فيها الكيان الإمامي وفرّخ، وامتلك حاضنة اجتماعية بسبب الجهل أو التجهيل الذي فرضت على كثير من شباب هذه المناطق. وهي أساسا لم تنشأ إلا في جبال الجيل والديلم، وجبال الرس، وجبال اليمن، بعيداً عن المدن. ومن هنا اكتسبت تلك الصلابة والشراسة والانغلاق على الذات(2).
إنّ كلَّ يمني في نظرِ الكيان الإمامي الإرهابي البغيض متّهمٌ بالفسوقِ والعصيانِ؛ بل ومتهمٌ بالكفر والمروق من الدين ما لم يُوالِ هذه الجماعة ويساندها على باطلها، وكلها باطل من الأساس. وكونه متهماً في دينه وعقيدته، فإن دمه وماله حلال لهم، كما تقرر ذلك فتاواهم بصريح اللفظ، وكما تناولناها سابقًا، وهو ما جعلهم يوغلون في عداوتهم قتلا وتشريدا وتنكيلا، كما فعل آباؤهم وأجداهم. ولسان حالهم كما قال الشاعر:
هذي العَصَا من تلكمُ العُصَيّة
فهل تلدُ الحيّةُ إلا حيّة؟
هذا كيان إرهابي كهنوتي، يقوم على نظرية عقائدية صلبة، غير قابلة للتفكيك من داخلها، وغير مستعدة للتعامل أو القبول بالآخر إلا أن يكون تابعًا لا غير. ونظريتها هذه تقليدية عتيقة، فشلت في السابق منذ وردت إلى اليمن نهاية القرن الثالث الهجري، وهي اليوم أكثر فشلاً، خاصة وهي تدعي الاصطفائية العرقية والسلالية، ولا تقوم إلا على القوة والعنف والسلاح، كما يعترف بذلك دهاقنتها الكبار؛ ولذا من يدعوها اليوم للسلم والعيش المشترك واحترام الدولة والانخراط في العمل السياسي ليس أقل من واهِم، وغير مستوعب لحقائق التاريخ وأدبيات الفقه الهادوي الذي لا يزال إلى اليوم مرجعا دستوريا لديهم على تقادم عهده.!
ونتوقف هنا على ملاحم إرهابية جنتها هذه الجماعة/ الكيان منذ بداية ما عرف بالحروب الستة في العام 2004م، وإلى اليوم، والجنايات الكبرى التي جنوها على شعبنا اليمني المتسامح معهم كثيرًا حد السذاجة، في الوقت الذي لا تزال تمعنُ في إرهابها وهمجيتها.
الحروب الستة.. لمحة موجزة
يحرم الدستور اليمني في المادة 36 امتلاك أية جماعة أو حزب أو تيار لأي مليشيات مسلحة تابع له؛ مشيرًا إلى أن امتلاك القوة العسكرية واستخدامها مقتصر على الدولة فقط، وهو نظام معمول به في مختلف دول العالم تقريبا. وأي مليشيا عسكرية تمتلك السلاح داخل أي دولة فإنها تمثل خطرا على الدولة وعلى السلم الاجتماعي، كما هو الشأن في حزب الله اللبناني الذي عمل على تقويضِ أركانِ الدولة اللبنانية بجماعته المسلحة(3).
في اليمن أرادت مليشيا الجماعة الحوثية الإرهابية مجاراة حزب الله اللبناني في امتلاك ذراع عسكري مسلح تابع لها من خلال ما عرف بمنتدى الشباب المؤمن مطلع تسعينيات القرن الماضي، الذي تحول اسمه إلى تنظيم الشباب المؤمن بعد العام 1997م. وإن تبدى التنظيم على صورة مجاميع طلابية، في الأربطة التابعة لهم وتتلقى تعاليم ما يسمونه بالمذهب الزيدي، وتعود هذه الأربطة إلى بداية ثمانينيات القرن الماضي.
كانت صعدة بمدينتها وأغلب مديرياتها منطقة مغلقة على هذا الكيان السُّلالي منذ سنوات، قصّرت الدولة في الوصول إليها، فاستغلت الجماعة هذا التقصير وملأت الفراغ على طريقتها.
لن نغوص كثيرًا في تفاصيل النشأة للجماعة التي باتت معروفة للجميع، سنتوقف عند أبرز محطاتها الإرهابية منذ البدايات الأولى للحروب الستة.
في العام 2004م، وبعد طول سنوات من التأهيل والإعداد لكثير من شباب المحافظة تمردت الجماعة على الدولة، بقيادة الصريع حسين بدرالدين الحوثي، الأمر الذي جعل الدولة تواجه تمرده، وتقضي عليه في شهوره الأولى التي انتهت بمصرعه في الكهف على يد قوات الجيش، فهلل الشعبُ اليمني وكبر لمصرع هذا الكاهن الإرهابي الذي يريد استعادة حكم الكهنوت الإمامي، وقد ركلهم اليمنيون إلى مزبلة التاريخ في 26 سبتمبر 1962م.
انتهت جولة الحرب الأولى بمقتل حسين الحوثي، وبدأت من ثم خمس حروب جديدة، بقيادة عبدالملك الحوثي، الأخ الأصغر للصريع، في سلسلة غامضة، لم تُعرف كثير من تفاصيلها، وسط تدخلات إقليمية ودولية، وخيانات داخلية، لا زالت خيوط أسرارها تتكشف يوما بعد يوم حتى اللحظة. ما كان ملفتا للنظر بصورة تبعث على الاستغراب هو تقوّي الجماعة يوما بعد يوم، وامتلاكهم للمزيد من الأسلحة النوعية، حتى كانت أحداث/ ثورة فبراير 2011م التي انضمت إليها الجماعة، ملتحقة بالشباب والأحزاب السياسية، ومتبنية آراءهم شكليا، فيما هم في الواقع قد كانت أعينهم على جل مؤسسات الدولة، فكانت 2011م الباب الذي اتسع لهم أكثر، ومنه عبروا، يفاوضون بفريق «ناعم» في صنعاء، فيما فريقهم العسكري يفاوض ببندقيته على طريقته الخاصة في كثير من المناطق التي بدأ يلتهمُها ويتفرد بها. وكلما زادت مساحة الحوار وتعددت مائداته تمادت الجماعة أكثر في سطوها المسلح، معززة بدعم لوجستي من قيادة النظام السابق الذي أراد الانتقام من «السّاحاتيين» فيما كان يمهد للف الحبل أكثر حول عنقه حتى كانت تلك النهاية المشؤومة.
وعوداً على بدء، أثبتت الوقائع والتحليلات أن الكيان الحوثي الإرهابي كان يخطط لإسقاط الدولة من قبل 2011م، مستعينا بفريقه المتخفي في صنعاء، والذي يعمل في أغلب مرافق الدولة، وممسكا بأهم مفاصلها بصورة موجهة، وبفريق المنظمات الفاعلة محلياً ودولياً، وكذلك ببعض الجيوب السلالية وغير السلالية التي كان قد عمل على استزراعها في الأحزاب الجمهورية، ومثلت له إلى اليوم دعما لوجستيا، وعيونا ضد زملائهم من الوطنيين، منتصرين لعرقهم وسلالتهم على وطنهم.
يهود آل سالم
هجّر الحوثيون خلال مسيرتهم في اليمن بعض الفئات المجتمعية، بدوافع طائفية ودينية وعرقية أيضا، كان أبرزها تهجير اليهود، وهم سكان أصليون عاشوا في مناطق مختلفة في اليمن. ففي أواخر العام 2006م أقدمت جماعة الحوثي على تهجير سبع أسر من يهود آل سالم من منازلهم في منطقتي «الحيد» و «غرير» بمديرية كتاف بمحافظة صعدة، بعد تهديدهم بالقتل؛ حيث أشعرهم الحوثيون خطيًا بمغادرة قريتهم خلال عشرة أيام، وإن وجدوا واحدًا منهم في المنطقة بعد انقضاء هذه المدة فإنهم سيندمون جميعًا(4).
وقد لجأت هذه الأسر المكونة من 45 فردا - أغلبهم من النساء والأطفال - إلى مبنى المجمع الحكومي في صعدة، ومن ثم بتوجيهات من الرئيس علي عبدالله صالح حينها بنقلهم إلى حي سكني محمي بالعاصمة صنعاء.
أجبر الحوثيون يهودَ اليمن على ترك منازلهم ومزارعهم التي توارثوها أبا عن جد دون ذنب اقترفوه سوى أنهم يهود وغير مسلمين حسب تصريح الحوثيين آنذاك.
في ديسمبر 2008م قَتلَ أحدُ المواطنين في ريدة بمحافظة عمران مواطنًا يهوديًا يُدعى ماشا النهاري بتحريضٍ حوثي، في إطارِ عملية التحريض التي تقوم بها الجماعة، ومن ثم توالت هجرة اليهود بسرية عبر منظمات إلى أمريكا وإسرائيل بعدما عجزت الدولة عن حمايتهم.
وبعد سيطرة الحوثيين على صنعاء، وتحديدا في مارس 2016 هجّرت المليشيا الحوثية 17 شخصا من يهود اليمن إلى إسرائيل(5).
وبالمناسبة، فإنّ الحوثيين كانوا وما يزالون يرفعون شعارًا تحريضيًا يستهدف اليهود، بمن فيهم يهود اليمن، وهو: الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود ...إلخ(6).
وكما ذكرنا آنفًا، فاليهودُ مكونٌ اجتماعيٌ في المجتمع اليمني منذ ما قبل الإسلام، ومن قبل ورود الغازي الرسي وأتباعه إلى اليمن، متعايشين مع عامة الناس بصورةٍ طبيعية، حتى كانت فتنةُ الرسي التي أحدثت القلاقلَ والفتن مع كل فئات المجتمع اليمني.
مارَسَ الحوثيون إرهابًا كبيرًا ضد اليهود اليمنيين، على الرغم من سلمية اليهود اليمنيين، والتزامهم الكامل بالنظام والقانون، واحترامهم لعادات وتقاليد إخوانهم المسلمين، فنكلوا بهم وشردوهم من ديارهم وأراضيهم واستولوا عليها كاملا(7)، ملاحقين إياهم بالشائعات بأنهم ينشرون الرذيلة في المجتمع، وأنهم يصنعون الخمور ويبيعونها للمسلمين، وينشرون الأفلام الإباحية، فيفسدون الشباب، إلى آخر هذه الاتهامات والشائعات الكيدية التي عُرف بها الحوثيون، فلاقت هذه الشائعات صمت وتساهل النظام السياسي، والأحزاب السياسية، وهو خطأ كبير وقعت فيه الدولة؛ إذ كان من المفترض أن تحميَ الدولة رعاياها، يهودًا كانوا أم مسلمين على حد سواء، وأن يتضامن الحقوقيون والساسة أيضا معهم، كمواطنين يمنيين. وقد انطلت هذه الشائعة على كثير من الناس، عامتهم وخاصّتهم، فلم يتعاطف صُنّاع الرأي العام مع اليهود في صعدة، ولا مع قضيتهم العادلة عدا القليل؛ نظرًا للنظرة القاصرة تجاه اليهود وحقهم في المواطنة، وربما تأثرًا بالشائعات الحوثية، فغادروا قُراهم تحت وطأة الإكراه بالسّلاح ودموعهم تتحدرُ من مآقيهم، رجالا ونساء وأطفالا وشيوخًا. غادر بعضهم إلى الخارج، فيما استقر البعضُ الآخرُ منهم في صنعاء، ينتظرون عودتهم إلى بيوتهم ومزارعهم؛ لكن ذلك ما لم يحدث حتى اليوم(8).
ووفقا للدكتورة أروى الخطابي: «اليهود في اليمن كانت لهم مساهمتهم في بناء الدولة، ولهم دور اقتصادي واضح منذ قديم الأزل؛ لكن إيران ومن خلال ذراعها في اليمن عمدت لتهجيرهم من أراضيهم ومواقعهم».
مضيفة: «في فترة من الفترات تم تهجير أكثر من خمسين ألف يهودي من اليمن، إلا أن كثيرًا من يهود اليمن ما زالوا متمسكين بالعادات والتقاليد اليمنية في المناطق كافة التي توجهوا إليها حول العالم»؛ مشيرة إلى أن ما يقوم به الحوثي مع اليهود هو تهجير قسري، وليس كما هي الحال في فترات سابقة؛ إذ يترك بعض اليهود اليمن من قرارة أنفسهم، وأن بعض يهود اليمن رفضوا أي عروض قدمت لهم من دول حول العالم للانتقال إليها، وفضلوا تراب أرض اليمن على بقية العالم، ليأتي الحوثي وينفذ رغبات إيران ويهجّر أحد مكونات اليمن بالقوة العسكرية والجرائم الجسدية والحبس وغيرها»(9).
سلفيو دماج
دَمّاج قرية تقع في وادٍ جنوب شرق مدينة صعدة بشمال اليمن، وهي تابعة إداريًا لمديرية الصفراء من محافظة صعدة باليمن، وتأتي شُهرة هذه البلدة بوجود مركز دار الحديث الذي أسسه الشيخ مقبل بن هادي الوادعي أحد مشايخ السلفية باليمن في العام 1979م، عقب عودته/ إعادته من المملكة العربية السعودية، مشتغلا بالعلم، بعيدًا عن قضايا السياسة، وتوافد على مركزه الآلاف من الطلاب من الداخل والخارج، من جنسيات عدة، يعيشون حياة بسيطة، منكبين على الحلقات العلمية والتعبد، ومتشددين في الجوانب العقدية، محاربين الخرافات والشركيات وتقديس الأشخاص وقبور الصالحين.
ولأنهم بهذا الفكر الذي لا يروق للجماعة الحوثية، وأيضا لأنهم موالون للدولة، فقد اتخذ الحوثيون منهم موقفا حديًا، واعتبروهم عدوا لهم، لذا قرروا ترحيلهم نهائيا، وإخلاء الساحة لهم وحدهم. فالحوثيون قد بدؤوا بالتنفيذ العملي لمشروعهم الذي خططوا له من زمن.
ووفقا لتقرير مجلس الأمن: «فرض الحوثيون حصارًا على قرية دماج، استمر من منتصف تشرين الأول: أكتوبر، حتى نهاية كانون الأول/ ديسمبر 2011م، وتسبب القتال في تعطيل الخدمات الاجتماعية الأساسية، مما ألحق ضررًا شديدًا بالسكان البالغ عددهم 12.000 ألف نسمة، وعلاوة على ذلك كان الحوثيون مصدرًا لعددٍ من التحديات؛ حيث فرضوا شروطا على المساعدات الإنسانية، مثل فرض قيود على التوظيف على تحركات الأفراد والإمدادات داخل صعدة، وأدت القيود المفروضة إلى تضييق مجالِ العملِ الإنساني أمام العديد من المنظماتِ، ونتيجة لذلك فإن بعضَ الوكالات الإنسانية انسحبت الآن تماما من محافظة صعدة».
وخلال الفترة المذكورة قاموا بقتل بعض طلبة العلم عن طريق القنص من الجبال، وكان من بين القتلى امرأة. ثم شنوا هجومًا في 26 نوفمبر 2011م، بالقذائف المدفعية والهاون قتل فيه أكثر من 20 قتيلا، من أهل السنة واستمر القصف والقنص والمواجهات إلى أن وصل عدد القتلى من أهل السنة حسب مصادرهم إلى 71 قتيلاً والجرحى إلى أكثر من 150 جريحًا، انتهى الحصار بعد توقيع الصلح بين الطرفين في 22 ديسمبر 2011م.
ومع هذا وكعادة الحوثي في نقض العهود وخيانة العهود، فقد تكرر الحصار مرات عدة كان آخرها في أواخر أكتوبر 2013م، وبصورة أشد من سابقه؛ حيث تجدد الحصار مع القصف بالأسلحة الثقيلة على دار الحديث بدماج من قبل مسلحي الحوثيين، فمنعوا من أراد الخروج من أجل العلاج؛ بل منعوا أهلَ دماج من الخروج لتأدية مناسك الحج في ذلك الموسم، وبرر الحوثيون حصارهم بأن الشيخ يحيى بن علي الحجوري قيم دار الحديث بدماج يجهز لحربهم، بالاستعانة بقائد الحرس الخاص طارق محمد عبدالله صالح والحكومة السعودية..!! وهي تهمة سافرة، يعرفها الجميع؛ إذ لا علاقة للشيخ الحجوري بالحروب من أساسها، فحروبه لا تتجاوز بطون الكتب والمدونات.
في 15 يناير بدأ الآلاف من سلفيي دماج النزوحَ منها مع أسرهم وحوالي 12 ألف طالب باتجاه العاصمة صنعاء وبعض المدن اليمنية، بعد اتفاق رعته الحكومة، ولا تزالُ جثث طلاب العلم مرمية في الأحراش، منها 97 جثة لطلاب عرب وأجانب. بعدها سيطر الحوثيون بصورة نهائية على القرية الكبيرة، بما فيها، وقد نزح منها أهلها.
والواقع لقد اختلف السلفيون الدماجيون مع غيرهم، واختلف غيرهم معهم كثيرا في مسائل دينية أو علمية؛ لكن رغم هذا الاختلاف الطويل لم تنتج عنه عمليةُ عنفٍ واحدة من قبلهم، وإذا ما تمت مناقشتهم فإنهم أكثر احتراما للدليل العلمي. إنهم حدّيون مع غيرهم، ولكن في الأقوال لا في الأفعال، وما يميزهم عن غيرهم أنهم إذا عاهدوا أوفوا بعهودهم، ولا يتجرؤون على نقضها كما يفعل الحوثيون. علما أن الجدل الدائر معهم لا يعدو الجدل الكلامي فقط، ولم نسمع يوما ما أن دمّاجيا قطع الطريق أو حمل البندقية أو اعتدى عليه غيره. حتى حضورهم على المستوى الاجتماعي والثقافي كان ضعيفًا، فلم يكونوا مندمجين بغيرهم كثيرًا، ولذا عندما هاجمتهم المليشيات الحوثية لم يتفاعل معهم إلا القليل من النخبة الإعلامية والحقوقية؛ لأنهم لم يستطيعوا إيصال مظلوميتهم للرأي العام، ولم يكونوا مرتبطين بمنظمات حقوقية أو إنسانية، ولا صلة لهم بالأحزاب، ولا يزالون إلى اليوم كذلك. كل هذا لم يشفع لهم عند الحوثي أن يمارسوا معتقداتهم أو شعائرهم وفقا لما يعتقدونه.
الطائفة البهائية
لا تذكر المصادر التاريخية التي بين أيدينا السنوات الأولى لنشأة الطائفة البهائية في اليمن؛ لكنها تشير على سبيل الإجمال إلى تواجدهم في اليمن منذ القرن التاسع عشر الميلادي. حيث تواجدوا في المدن الساحلية لأول مرة، كالمخا وعدن والمكلا والحديدة ولحج، ومنها تناقلوا إلى بعض المدن اليمنية، مثل تعز وإب وصنعاء، وكانوا كغيرهم من الجماعات الأخرى، مواطنين يمنيين، يدينون بمعتقداتهم، كما يدين اليهود في صنعاء، والهندوس والمسيحيين واليهود أيضا في عدن، وكما تدين بقية الجماعات الأخرى بمذاهبها ومعتقداتها، وكلٌ يتقبل الآخر، ويتعايش معه برحابة صدر.
والبهائية جماعة تكاد تكون مجهرية، لمحدودية منتسبيها وقلتهم، وهي مندمجة في المجتمع بصورة طبيعية، ولا يمتلكون برنامجا سياسيا مناوئا لأحد. تتوزع في كثير من الدول بطريقة عنقودية، ولا تمثل خطراً. ويكاد أغلب اليمنيين لم يسمع بهم في فترة النظام السابق كاملا.
في السنوات الأخيرة ضاقت بهم الجماعية الحوثية، كما ضاقوا بغيرهم، فشنت عليهم حملات إرهابية مادية ومعنوية متتالية، كعادة الحوثيين في التعامل مع من عداهم، ابتداءً من يهود آل سالم، فسلفيي دماج، فالأحزاب السياسية بعد ذلك، وانتهاء بالبهائيين.
ووفقا لتقرير مجلس الأمن الدولي للعام 2018م، الذي تحدث عن الانتهاكات الحوثية وإرهابها تجاه من عداها، قال: «منذ العام 2016م حُرم الكثير من أتباع الديانة البهائية من حريتهم، أو ألقي القبض عليهم بطريقة لا تُراعي الإجراءات القانونية الواجبة. وفي عام 2018م واصل الفريق التحقيق في حالات تتعلق بأتباع الديانة البهائية، ممن اعتقلوا، و/ أو صودرت ممتلكاتهم، بطريقة لا تراعي الإجراءات الواجبة(10).
لقد تم الزج برؤوس الجماعة البهائية إلى السجون، ثم محاكمتهم شكليا، من قبل قضاة يتبعون الجماعة، والحكم على رئيسهم حامد حيدرة بالإعدام تعزيرًا، بعد سجنه أكثر من أربع سنوات، وأيدته محكمة الاستئناف، بعد مصادرة كل أمواله، وظلت هذه الجماعة في المعتقلات الحوثية شهورا طويلة، حتى تم إجبارهم على مغادرة الوطن كرهًا، بعد مفاوضات مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان مع الحوثي بشأنهم، حيث اشترط الحوثيون على ستة أفراد من القيادة البهائية مغادرة البلاد أو البقاء في المعتقلات؛ ففضلوا مغادرة البلاد إلى إحدى الدول الأوروبية، لعدم احتمالهم لصنوف التعذيب في المعتقلات(11).
إنه التوجس النفسي المتمكن من ذهنية الجماعة الإرهابية التي تسيء الظن عادة بكل مخالف لها، كما عبر عن ذلك إمامهم أحمد بن سليمان في القرن السادس الهجري، حيث يقول شعراً:
إذا ما خفتَ في بلد عدوا
فخالفْ ظنه في كل فن
وخف من كنتَ تأمنه احتياطا
وظن بمن تعادي شرّ ظن
إن هذين البيتين بقدر ما يحتويان على تكتيك سياسي قد يبدو بارعًا وذكيًا، بقدر ما يكشف أيضًا حجم الرهاب النفسي والخوف الذي يسكن هذه الجماعة نفسيًا من الداخل قديما وحديثا، فكل مُغاير أو معارض لهم هو في نظرهم عدو يجب استئصاله وإبعاده والقضاء عليه نهائيا.
الإعلاميون
الكلمةُ بشكلٍ عام عدو الحوثي، سواء كانت مكتوبة أم مسموعة، أم مرئية، أو ما في حكم الكلمة كالصُّورة، الكاريكاتور، اللوحة التشكيليّة.. إلخ. جميعُها ينفرُ منها الحوثي؛ بل يعيش معها «فوبيا» تؤرقه في صحوه ومنامه. ولما كان الصحفيون والإعلاميون والفنانون والمصورون هم ربانُ هذه الفنون، وهم الشُّهودُ الميدانيون على الحقيقةِ كما هي، فقد استهدفهم الحوثي ومليشياته بدرجة رئيسية قبل غيرهم.
وفي الواقع فإنَّ كلَّ الأيديولوجيات والعصبويات نافيةٌ - بطبيعتها - للآخر، وغير قابلة به، وتعتبرُ نفسها في حربٍ مفتوحة مع كل من عداها على الدوام، متوجسة من الجميع. ويأتي الحوثي ومليشياته على رأس كل تلك العصبويات والأيديولوجيات المتطرفة والتي تجاوزها جميعًا؛ لذا لا يقبل بأي فكرٍ خلاف فكره، ولا يتقبلُ أيَّ رأيٍ خلافَ رأيه الذي يسوّقه بين الناس عقيدة ودينا.
قبل أن يستولي الحوثي على دار الرئاسة والقصر الجمهوري ووزارة الدفاع والداخلية ورئاسة الوزراء في انقلابه المشؤوم في سبتمبر 2014م سعى أولا للسيطرة على «الفضائية اليمنية/ التلفزيون»، ثم قناة سهيل، ثم بقية المؤسسات الإعلامية الأخرى، وعقب قتله للرئيس السابق علي عبدالله صالح كان أول ما سعى للإطباق عليه هي قناةُ اليمن اليوم التي يمتلكها الرئيس السابق، والصحيفة التابعة للمؤسسة.
قبل ذلك امتلك الحوثيُّ عبر أذرعه المختلفةِ العديد من المؤسساتِ الثقافية والإعلاميّة والمراكز الدينية التي غرر بها على الجهلة والعامة من الناس، ثم عززها بصورة مكثفة بعد ذلك حين تمكن من السيطرة على الدولة، ومن ثم نكل وشرد وقتل واعتقل كل مثقف أو إعلامي مناوئ له، بل وحتى ممن صمتوا ولم يتكلموا داهم منازلهم واعتقلهم، خشية أن يكون لهم رأي فيه..!
خلال العشرين السنة الأخيرة - وخاصة منذ العام 1990م - تشكلت حرية إعلامية وثقافية في اليمن بصورة أكبر مما كان عليه الأمر سابقا، سواء في الشمال أم في الجنوب، وتراجعت نسبة القمع والمصادرة بصورة كبيرة، حتى كان ذلك الانقلاب المشؤوم في 2014م الذي أعادنا إلى نقطة الصفر. قمعٌ وتنكيلٌ واعتقالاتٌ ومصادرةٌ وتكميمٌ لكل صوت لا يتفق وصوت المليشيات..!
فوفقا لمنظمة سام للحقوق والحريات: «شكلت الأعوام 2015 حتى 2019م امتدادا سيئا لواقع حرية التعبير والرأي في اليمن؛ حيث صُنفت اليمن من أسوأ دول العالم بالنسبة للحرية الصحفية، كما أنها تعد بيئة عمل خطيرة للصحفيين. وفي مؤشر حرية الصحافة الذي يصدر سنويا عن منظمة مراسلون بلا حدود صنفت اليمن في المرتبة 167 من بين 180 بلدا.. حيث بلغت الانتهاكات التي طالت الحريات الإعلامية والصحفية إلى ما يقارب 1300 انتهاك. عمليات اقتحام ونهب ومصادرة لأكثر من خمسين وسيلة إعلامية، وقتل 36 صحفيا، و234 حالة اعتقال لإعلاميين وصحفيين.. وصدر عن محكمة خاضعة للحوثيين حكمُ إعدام بحق صحفي مختطف في الستين من عمره(12). تم إلغاؤه لاحقا. كما تعرضتْ منازلُ إعلاميين للمداهمة، وأولادهم للاختطاف، وقطعت مرتباتهم، وفصلوا من وظائفهم، وبينما يقضي بعضهم العام الثالث في السجن، فقد أُجبر آخرون على النزوح إلى محافظات أخرى مع عائلاتهم، وهاجر آخرون إلى الخارج»(13).
ووفقًا لتقرير مجلس حقوق الإنسان، الصادر في أيلول/ سبتمبر 2019م، نص على ما يلي: «ابتداءً من أيلول سبتمبر 2014م أفيد عن سيطرة اللجان الشعبية الحوثية على وسائل الإعلام التي تملكها الدولة، وعن مداهمتها القنوات التلفزيونية، ومكاتب الصحف، ومحطات الإذاعة. وقامت بحظر 21 موقعًا إخباريًا، وفرضت الرقابة على سبعِ قنوات تلفزيونية، وحظرت نشر 18 صحيفة، وتم تعليق حوالي 30 صحيفة عن العمل أو إجبارها على الإغلاق، وفضلت بعض وسائل الإعلام الإغلاق بدلا عن فقدان استقلاليتها، وتم استهداف صحافيين وإعلاميين لهم علاقة بحزب الإصلاح على نطاق واسع.. ونهب منازلهم والاعتقالات التعسفية. وبحلول حزيران يونيو 2019م كانت وسائل الإعلام التي تبث من صنعاء إما موالية لأيديولوجية سلطات الأمر الواقع، أو أجبرت على العمل تحت مراقبة صارمة من السلطات. وأفيد أيضًا عن حظر بعض المواقع الإلكترونية في العام 2018م من خلال سيطرة الحوثيين على وزارة الاتصالات، وعلى مزود خدمة الإنترنت: يمن نت(14).
وامتد الإرهاب الحوثي ليشمل حتى الأكاديميين والشعراء والأدباء، فلم يستثن أحدا، فكل من يشتم منه رائحة معارضة ساقه إلى المعتقل، ولسان حاله: كل الناس متهمون حتى تثبت براءتهم، وقد رأينا أكاديميين كبارًا اضطرهم الحوثي إلى العمل خبّازين في المطاعم، ومعلمين تحولا عمالا يحملون الأحجار، وفي هذا عبر أحد الشعراء الشعبيين، ساخرًا، بعد أن اعتقله الحوثيون وعذبوه، بقوله:
قولوا لجبريل وعزرائيل
ما ناش نصراني ولا كافر
الموت لأمريكا وإسرائيل
والضرب في ناصر علي ناصر!
* * *
(1) الآراء والمعتقدات، جوستاف لوبون، 156.
(2) انظر: سيكولوجيا النظرية الهادوية في اليمن قراءة في البنية النفسية للنظرية، د. ثابت الأحمدي، «تحت الطبع».
(3) تنص هذه المادة على التالي: «مادة (36) الدولة هي التي تنشئ القوات المسلحة والشرطة والأمن وأية قوات أخرى، وهي ملك الشعب كله، ومهمتها حماية الجمهورية وسلامة أراضيها وأمنها ولا يجوز لأي هيئة أو فرد أو جماعة أو تنظيم أو حزب سياسي إنشاء قوات أو تشكيلات عسكرية أو شبه عسكرية لأي غرض كان وتحت أي مسمى، ويبين القانون شروط الخدمة والترقية والتأديب في القوات المسلحة والشرطة والأمن».
(4) الحوثيون الظاهرة الحوثية دراسة منهجية شاملة، د. أحمد محمد الدغشي، مكتبة خالد بن الوليد، دار الكتب العلمية، د. ط، 27 .
(5) هاجر هؤلاء الجدد وبصحبتهم أنفس المخطوطات التاريخية اليمنية التي لم تُحقق حتى الآن، ولم يعرف اليمنيون مضمونها، وظهر أحد اليهود اليمنيين وهو يستعرض مخطوطا كبيرا مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو.
(6) همدان العليي، ورقة عمل خاصة.
(7) تربط المؤلف علاقة صداقة بالحاخام اليهودي يحيى يوسف الذي يستنكر احتلال اليهود للأراضي الفلسطينية ويدينه، ليس ذلك فحسب؛ بل ويتبرع للمسلمين في فلسطين ببعض المبالغ المالية، وقد رأيت بعض السندات التي أراني إياها الحاخام في منزله ذات مقيل معه.
(8) انظر: حرب الشائعات.. الإمامة الهادوية في اليمن تاريخ من الافتراء، د. ثابت الأحمدي، مركز النهضة اليعربية، 35. وما تنبغي الإشارة إليه هنا هو أنه تربط المؤلف بالحاخام اليهودي بصنعاء يحيى يوسف علاقة صداقة جيدة. ولطالما تفاجأتُ بحب الحاخام لليمن، وهو يحكي لي عدة عروض وصلته من المنظمات اليهودية في أمريكا وإسرائيل بإيوائه في أي بلد يختاره بينما هو يرفض ذلك على الدوام، مفضلا اليمن على أمريكا وإسرائيل، كما أخبرني أن أبناءه يتعلمون في المدارس الحكومية الرسمية، ويدرسون مادتي التربية الإسلامية والقرآن الكريم، كبقية الأطفال؛ بل ويشجعهم على ذلك، وهو ينطق الشهادتين، ويقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أنه يرى نفسه غير ملزم باتباعه؛ ففي دين موسى وتوراته ما يغنيه عن دين محمد حد اعتقاده. والأهم أنه يدينُ احتلال الكيان الصهيوني لأرض فلسطين، ليس ذلك فحسب؛ بل ويتبرع للمسلمين في فلسطين ببعض المبالغ المالية، وقد رأيت بعض السندات التي أراني إياها الحاخام في منزله وفي مكتبته رأيته يحتفظ بنسخةٍ من القرآن الكريم بكل إجلال واحترام.
(9) صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، العدد: 14916 الاثنين - 1 صفر 1441 هـ - الموافق 30 سبتمبر 2019م.
(10) التقرير النهائي لفريق الخبراء المعني باليمن في مجلس الأمن، على الرابط: https://undocs.org/ar/s/2020/70/Corr.1
(11) هؤلاء القيادات هم: حامد بن حيدرة، ووليد عياش، وأكرم عياش، وكيفان قادري، وبديع الله سنائي، ووائل العريقي، نقلوا من سجن المخابرات الحوثية إلى مطار صنعاء مباشرة.
(12) هو الصحفي عبدالرقيب الجبيحي.
(13) الحقيقة وسط النار.. مهنة خطرة، تقرير حقوقي يرصد الانتهاكات التي تعرض لها المدافعون عن حقوق الإنسان والإعلاميون في اليمن من 2014 وحتى 2020م، منظمة سام للحقوق والحريات، ص: 49.
(14) تقرير فريق الخبراء الدوليين والإقليميين البارزين بشأن اليمن، إلى مجلس حقوق الإنسان 2019م، ص: 131.
** **
- د. ثابت الأحمدي