وطني وأنت الحب ينعش خافقي
فأراك في دنيا الوجود الأجملا
ما أعظم هذا الوطن وما أسمى تطلعاته! كلما يممت في أرجائه شاهدت سموق هامته وعلو همته، وقدم لك الشواهد تلو الشواهد على حكمة قيادته وحسن إدارته؛ فتمخض عن كل ذلك إنجاز يتبع إنجازًا، وعمل يملأ نفسك به رضًا واعتزازًا، انطلقت رحلتنا إلى الجنوب صحبة قائد الرحلة الدكتور يوسف العارف والدكتور يعن الله الغامدي صباح الثلاثاء من جدة على راحلة الدكتور يوسف الأمريكية الولادة والمنشأ، انطلقنا ممتلئين برغبة الاستكشاف، ولذة المعرفة إلى الليث بدعوة كريمة من قبل الدكتور حامد الإقبالي صاحب صالون الليث الثقافي الثلاثائي، وذلك لأقدم محاضرة بعنوان (الليث في المدونة الرحلية)، وبعد مسيرة تقارب الساعة كانت محطة وميناء الشعيبة أول معالم الطريق، ثم مررنا بقرية المجيرمة وهي قرية صغيرة، لنصل بعد ذلك إلى يلملم ميقات أهل تهامة واليمن المعروف بـ(السعدية) وهو الآن مركز تابع لمحافظة الليث، ثم وصلنا إلى المظيلف، وبعدما شاهدنا بشائر الربيع على جانبي الطريق لفت أنظارنا قائد الرحلة الدكتور يوسف العارف إلى كثرة الإبل المستمتعة بالمرعى الربيعي ليسألني عما قلت، فأجبته نظمًا:
يا للربيع به المحاسن أبهجت بخمائل هي بالأناقة توجت
تزدان بالإبل السمان رياضها ماذا أقول.. إذ المفاتن أسرجت؟
فالله حث على تأمل خلقها حسنان قد فاقا..حروفي أحرجت!!
وبعد ساعتين من المسير من جدة وصلنا إلى الليث، فوضعنا رحالنا في السكن المعد لنا، وفي المساء أتى إلينا إياد ابن مضيفنا د.حامد الإقبالي ليقلنا إلى المخيم الخاص باللقاء - في طريق (غميقة) التي تقع شرق وادي الليث الكبير ويكثر فيها شجر الأراك - والمقام في منطقة تكتسي باخضرار الربيع الذي تأنق فيها أناقة أهلها، ونشر العشب كما ينشر مضيفونا ابتساماتهم دفئًا بالمكان، ابتدأت محاضرتي بعد اكتمال حضور المدعوين للقاء وعددهم في المكان دون العشرين تناغمًا مع الاحترازات الصحية، في حين بثت المحاضرة على (الزووم) لإتاحة الفرصة لمتابعتها عن بُعد، ولقد سرني التلقي الحسن لها والتفاعل من قبل الحضور الفعلي والتقني عبر مداخلات متنوعة بعدما استعرضت المحاضرة مشاهدات ثمانية من الرحالة الغربيين والعرب عن الليث وعن السرين، وكان من حضورها الأستاذ عبد الله البصراوي رئيس نادي الليث الرياضي، الذي أكد بحضوره عمق الصلة بين الرياضة والثقافة، والأستاذ سعيد الكرساني وهو صاحب إصدار عن الليث والمؤمل فيه وفي المخلصين من أبناء الليث أن تكون هذه المحاضرة فاتحة لمشروع ينهضون به لرصد مشاهدات جميع الرحالة عن المنطقة وجمعها وتوثيقها في إصدار يعين على كشف تاريخ المنطقة لاسيما في الفترات التي لم تنل حظًا من التوثيق؛ فالرحلات هي تاريخ ما لا تاريخ له، ولعل مما سر في هذا المساء كذلك حرص القائمين على صالون الليث بدعم المواهب الشابة والدفع بإياد الإقبالي ليكون مقدمًا للمحاضرة، وللأمسية الشعرية التي أحياها بعد المحاضرة شاعر القنفذة الأستاذ أحمد حلواني وحلق بنا بروحه المحبة وحرفه الشادي الذي غنى لليث:
يا(ليث) هذي قوافي الشعر قاطبة أتت إليك تباهي الشط بالشجر
وكم نمر على (السرين) في وله والعين يأسرها نقش على الحجر
وفي (غميقة) سحر لو مررت بها لانساب من (إضم) في العين كالحور
كما شارك المساء بالشدو الشعري د.يوسف العارف ود.يعن الله الغامدي بقصائد من ديوانه (سلام على رغدان)، وبعد ضيافة من مضيفنا عدنا لنخلد للنوم ونستيقظ مبكرين، لننطلق في السابعة والنصف صباحاً إلى القنفذة، لنمر بعدد من القرى مثل الوسقة والنعرة قبل وصولنا إلى القنفذة التي تبعد عن الليث بمسافة تقارب مئة وخمسة وستين كيلو مترًا، وصلنا إلى القنفذة وتجولنا في أرجائها وعلى شواطئها التي تشهد بصدق الجهود والعمل الدءوب، لنستعيد بها ومعها قول الشاعر أحمد حلواني - الذي يرى القنفذة غادة الجنوب - قوله:
حبيبتي (غادة) للعين فاتنة
وللفؤاد فمابال الذي لاما
(القنفذا) من هوت نفسي وما عرفت نفسي الهوى غيرها وجدًا وأحلامًا
وفي ربا (القوز) أنسام معطرة تشفي عليلاً شكا في الوجد أسقامًا
وفي (حليّ) يفوح الطيب من ألق و(الشيح) يضحك (للريحاني) مذ قاما
والقنفذة مدينة ساحلية تتميز بشواطىء خلابة، وقد استثمر رئيس البلدية سابقاً مصلح الغنيم بعض فروع الأودية الصغيرة ليحولها إلى مجار مائية تخترق المدينة وتمنحها مزيدًا من الجمال، وليستكمل رؤساء البلدية اللاحقون هذا العمل، ومما يؤسف له أننا لم نقف على شيء من المباني الحجرية القديمة للمدينة.
كما كانت تشتمل على أغوار ماء حلو بجوار البحر مثل (أم الدبة) الذي أقيم على أنقاضه مبنى شركة الكهرباء.
ولما وضعنا متاعنا في السكن المطل على البحر، ليفاجئنا الصديق المضياف الأستاذ خليل السحاري بوصوله إلى سكننا على وجه السرعة بعدما عرف وجهتنا من الدكتور يوسف، لنرافقه إلى القوز التي تبعد عن القنفذة ثلاثين كيلو مترا. ولننعم بكريم ضيافته من سمك وخميرة بالسمسم ومرسة، وهي من الأكلات الشعبية في القنفذة، حدثنا مضيفنا عن لقاء تاريخي عقد لوزراء الصحة العرب في القنفذة عام 1402 إبان وزارة حسين الجزائري لوزارة الصحة، وحيث كانت القنفذة إحدى البؤر لمرض الملاريا حينها، قلت وهذا دعم معنوي كبير من حكومتنا الرشيدة لقاطني القنفذة من خلال عقد اللقاء رغم كل الصعوبات حتى أنهم اضطروا إلى تجهيز مبنى معهد المعلمات المشيد حديثًا في ذلك الوقت ليكون مكانًا لإقامتهم، كما أفادنا بأن (برك الغماد ) يبعد عن القوز مئة وعشرين كيلو مترًا، وهو من المواقع التاريخية المشهورة لارتباطه بغزوة بدر عندما قام المقداد بن عمرو قائلاً للرسول صلى الله عليه وسلم (لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه) وبرك الغماد بحر يفضي إلى جبل دون فاصل، ولذلك كان موضعًا للاستشهاد في التصميم على بلوغ الهدف!
وعودًا إلى مضيفنا الكريم الذي صحبنا إلى وادي حلي حيث جمال الطبيعة والسد الضخم المشيد لحجز مياه الأمطار، ثم أصر على اصطحابنا إلى مزرعته التي تضم أحواضًا لزراعة السمك وأشجار النخيل والمانجو، لنقضي أمسية ماتعة معه وصحبه الكريم في مسامرات أدبية وأحاديث ودية استعدنا فيها ذكريات التربوي (خليل قلب الأسد) الذي انتقل بعد تقاعده إلى الزراعة التي يقول إن أهلها بحاجة إلى تثقيف وتوعية ليعرفوا عن الزراعة ما يجب معرفته من أسسها، استعدت معه برنامج الأستاذ الينبعي الكبير عبد الكريم الخطيب عن الزراعة وهو البرنامج الإذاعي الشهير (الأرض الطيبة) واتفقنا على قيمته للمزارعين آنذاك، ولعلنا نقترح على هيئة الإذاعة والتلفزيون أن تطلق قناة إذاعية بعنوان (ذكريات) أسوة بالقناة التلفازية.
بعد ذلك أخذنا مضيفنا في جولة سريعة على سوق الخميس الشعبي الذي بدأ باعته الاستعداد له منذ مساء الأربعاء فجلنا به وتسوقنا منه، وبعد ساعات ماتعة مضينا لنودعه ممتنين لضيافته ولسان الحال يقول:
يا(خليلا) في حنايا الذاكره
نابضا بالحب روحا آسره
في محياه سرور بالغ
عن حناياه قرأنا ظاهره
تحت ظل الدين نبقى إخوة
بدؤنا الدنيا..وحتى الآخره!
خلدنا للنوم سراعًا بعد يوم حافل بالنشاط، واستيقظنا مبكرًا لننطلق بعد الفجر إلى (وادي قنونا) ومحافظة (العرضيات) حيث ينتظرنا الصديق الأديب الأستاذ محسن السهيمي الذي وافانا عند سد وادي قنونا، وهو السد الذي تمتد صفحة الماء أمامه لكيلوات عديدة حتى تخاله بحيرة كبرى، أما الوادي فهو أشبه بالنهر الجاري الذي تنساب مياهه رقراقة وأشجار النخيل الطوال على ضفتيه، ويالجمال الوادي ويالجمال بلادي، لكنني أهمس في أذن محافظ العرضيات المثقف الشريف علي بن يوسف الذي تفضل بالاتصال داعياً ومرحبًا ومضيّفًا للعمل على استقطاب المستثمرين على ضفاف الوادي الذي ما زال بكرًا، وكلي ثقة بأنه سيصنع فارقًا في المكان كيف لا وهو المثقف والأديبب!
وعودًا لمضيفنا الكريم الذي أعد لنا جلسة وإفطار شهي (خبزة بالعسل وزيت السمسم) تحت ظلال النخيل وعلى صوت خرير المياه والنسمات الضحوية..وعلى فناجين القهوة والشاي دارت أصبوحة شعرية تجلى فيها الحب الذي يكتنز قلب محسن للعرضيات وحاله حال الإقبالي في الليث والحلواني في القنفذة والسحاري في القوز، فالبلدان لا تقوم إلا على سواعد أبنائها، لقد جاء شعر محسن موثقًا لمعالم المكان (العرضيات) -بضم العين- ننصت له بإعجاب وهو ينشدنا:
كنزان دارا مع الأيام وازدهرا خصب المكان وتاريخ هنا حضرا
هنا نهير.. هنا نخل.. هنا جبل وههنا السد أضحى اليوم مدخرا
هنا (قنونا) ربيع السائحين هنا يحلو القصيد فيغدو الشوق مستعرا
ليأخذنا بعدها إلى جولة طويلة على ضفاف الوادي (النهر) فكنا نخوض في الماء حينًا ونسير على ضفته حينًا بحسب اتساع الطريق، حتى وصلنا إلى (رصعة أبي زيد) وهي صخرة ضخمة معلقة في الهواء مستندة على رأس أو نتوء صغير يتكئ على الصخر الذي أسفله، وعن هذا المشهد يقول شاعر العرضيات محسن السهيمي:
تكر الدهور ولما تزل على حسنها هكذا ثابته
ومن راح يوماً إلى ضفتي قنونا يجدها هي اللافته
فياصخرة تخطف العين ما شجاك..فكنت هنا نابته!
مررنا بحصن (موجح ببني بحير) ثم بحجر القلادة الذي صوره وليفريد (مبارك بن لندن) قبل خمسة وسبعين عاماً.
واصلنا سيرنا إلى دار مضيفنا الكريم الأستاذ محسن لتناول طعام الغداء بحضور صفوة من صحبه وأناسه.. لننطلق بعد ذلك إلى محايل عسير شاكرين لمضيفنا حسن استقباله وكريم ضيافته، وفي الطريق أخذت أتأمل في أمرين:
الأول: تسمية المراكز بصيغة الجمع؛ إذ توجد الشاقة الشامية والشاقة اليمانية، فسمي المركز بمركز الشواق عوضًا عن الشاقة كاسم جامع أو الشاقتين، وكذلك تسمية العرضيتين بـ(العرضيات) وكان يمكن تسميتها بـ(العرضية).
أما الأمر الثاني: فهو تعدد المراجع لمحافظة العرضيات حتى تفرق طموحها بين المناطق؛ فهي تتبع منطقة مكة المكرمة إداريًا، وخدمة كهربائها تابعة لمنطقة عسير، وفي النقل وصندوق التنمية تتبع لمنطقة الباحة، وتتبع إدارة تعليم محافظة القنفذة تعليميًا، علمًا أنها بيئة جبلية بين عسير والباحة، وقرية الحمرة في محافظة العرضيات تقع في الجهة الأخرى من الجبل الذي يحتضن مدينة بلجرشي، وهي تبعد عن منطقة الباحة مئة كيلو متر، وعن منطقة عسير مائتي كيلو متر، وعن منطقة مكة المكرمة أربع مئة وعشرين كيلو مترًا، وأثق أن الرؤية الطموحة التي مافتئت تراجع النظم واللوائح وتراهن على استثمار مواقعنا السياحية كوادي قنونا ستدفع إلى إعادة النظر في هذا الشأن بما يسرع من خطوات التطوير فيها.
انطلقنا نحو محايل عسير حيث ينتظرنا صديقنا الدكتور صالح السهيمي، ولما وصلنا إلى محايل عسير فوجئت - وأنا الذي أزورها لأول مرة - كما فوجئ رفيقا الرحلة رغم زيارات سابقة لها بهذا التطور الذي تشهده وهذا الانفجار العمراني الكبير، وضعنا حقائبنا في الفندق وأدينا صلاتي المغرب والعشاء، ثم قدم علينا مضيفنا الدكتور صالح السهيمي -وكيل كلية العلوم والآداب بجامعة الملك خالد - وكان قد فرغ للتو من مؤتمر علمي عن الثراء اللغوي، أخذنا بسيارته إلى استراحة جميلة بتصميمها، وقبل ذلك بأناسها الذين انضموا لنا لاحقًا وهم الدكتور إبراهيم آل غالب عسيري عميد كلية العلوم والآداب والدكتور زياد مقدادي والدكتور إبراهيم محايلي، لنأنس بهم كما أنسوا بنا في جلسة أدبية ماتعة ماتعة، حدثنا الدكتور آل غالب عن المؤتمر وفكرته، واستدرجناه للكشف عن الشاعر القديم فيه، ومضت ساعات الليل جميلة ونحن نحلق من فنن إلى فنن ومن نص إلى آخر، وعند منتصف الليل انقضى المجلس وبودنا لو لم ينقض! أخذنا الدكتور صالح في جولة سريعة على منطقة محايل القديمة، ثم صعد بنا إلى جبل الحيلة (بسكون الياء) ومحايل تقع بين جبلين كبيرين هما الحيلة وشصعه، ذهبنا بعدها إلى سكننا لنخلد إلى النوم على وعد بمروره علينا صباح الجمعة لاستكمال الرحلة، وأتى الصباح بنسائمه لينطلق بنا الدكتور صالح إلى الجبل الآخر شصعه حيث يوجد مطل رائع يطل على المدينة، وهو موقع للطيران الشراعي، وإن من وصية هنا؛ فتتمثل في وضع سياج متحرك حتى يغلق في الفترات التي لا يوجد بها نشاط لرياضة الطيران؛ فيحمي بذلك مرتادي المكان -وخاصة الأطفال- من خطر السقوط من حافة المرتفع، ثم انطلقنا إلى جبل (هادا) وحق لمن رأى مناظره الخلابة التي تحاكي في بعض منها جبال فيفا أن يصرخ باللهجة الحجازية التي تغفل نقطة الذال (ماهادا)؟!.لنعود بعدها ونؤدي صلاة الجمعة في جامع مشيد حديثًا هو جامع الشيخ عبد الله الفلقي، وهو يحاكي في تصميمه توسعة الحرم المكي الشريف، وفي مئذنتيه وحتى في طريقة أذان مؤذنه الذي يذكرك بالشيخ علي ملا مؤذن الحرم المكي الشهير، وبعد الصلاة انطلقنا عائدين من محايل إلى المجاردة إلى القوز وسبت الجارة فالقنفذة والليث لنصل إلى جدة قبيل العاشرة من مساء السبت ونحن نحمل عن المكان والإنسان في جنوبنا العزيز أجمل الذكريات، ممتلئين بالفخر والاعتزاز بهذا الوطن الشامخ الذي مافتئ يسعى للبناء والنماء والتطع المستمر للرخاء، إنه وطن يتوثب ولا يتراخى، ويتطلع فلا يتوانى وسيكون أجمل بنا إن تكاتفتنا يدًا بيد لعلاه، متعهدين هذا المشروع الوحدوي العظيم الذي شيده الملك المؤسس - رحمه الله، ورعاه أبناؤه البررة من بعده وطنًا أبيًا يصنع مجده بخطاه تكلؤه عناية الله!
** **
- د. سعد بن سعيد الرفاعي