(الي فات مات).. مثل عامي يستخدمه الناس لمواساة المحزون في أن مادام الأمر الذي يشق عليه أصبح من الماضي إذن فقد مات وانتهى أمره.
أما أنا فلا أرى أن الأمر استوى على هذا التسطيح، وإن كان كذلك فهذا يعني أننا أموات؛ لأن ما تاريخ أرواحنا إلا هذه الأحداث الفائتات، وبدونها تكون أرواحنا مسخًا بلا تاريخ، بلا روح، فما الروح في حاضرها إلا امتدادًا من ماضيها اتصالاً بمستقبلها، وبذلك فإن الذي فات لم يمت؛ لأنه هو هوية الروح، هو وزنها؛ ولعل هذا ما يتجلى في القول المأثور»أريحوا النفوس فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد».
لا يمكنني أن أقول للابن حين وفاة أمه عد كما كنت قبل أن تُخلق أمك؛ لأنه خرج إلى الحياة منها، ولم يعهد حياة بدونها، لكن هل يمكنني أن أقول للأم حين وفاة ابنها: لقد عشتِ حياة كاملة قبل أن تنجبيه، إذن وببساطة لِمَ لا تعودي إلى حياتك الأولى كأنك لم تنجبيه؟
يبدو الأمر منطقيًا في قياس الترابط الجسدي بين الأم وابنها المتعلق بالحمل والولادة نظريًا، لكن لماذا من المستعصي أن تكون إجابة الأم (نعم أقدر)؟ لأن معرفتها بابنها شكلت حيزًا في وزن روحها، لا جسدها.
هذا ما قصدته بوزن الروح الذي يحمل كل ما فات، لم يمت منه شيء.
لدي اعتقاد أن الروح منذ يوم مولدها تمشي في أيام عمر الإنسان وتلتقط كل ما تمر به ويمر بها، فلا نسيان مع الروح؛ ولأنها غير مادية فلا يقاس وزنها بالكيلو، لكن تخيل كم كيلو سيكون وزنها وهي تلتقط كل شيء منذ يوم مولدها ولا تتخفف من مثقال ذرة التقطتها؟!
فاعتقادي أن ما تتخلص منه ذاكرة الإنسان في مكانها في المخ عضويصًا (جسديًا) تضمه الروح في مستودعها الذي لا يتخلص من شيء مهما صغر أو ثقل؛ ولذلك فإن روح الإنسان هي وزن من كل ما مر به، حتى ذلك الرجل الذي مر أمامك في الشارع وأنت تبلغ من العمر الرابعة عشر، ولم تفعل شيئًا إلا أنك رنوت إليه على عجل، محفوظ في وزن روحك الآن!
إن تاريخ عمرك هو تاريخ روحك المنوط بوزنها، هذا الأخير الذي تشكل حمله من كل ما مر بك من الأفراح والأتراح؛ ولذلك تختلف شخصيات الناس ونفسياتهم تبعًا لما حملته أرواحهم في أوزانها، وهذا أيضًا ما يفسر تطور الإنسان على صعيد فكره، فلو غلّق على روحه المنافذ لن يتقدم فكره رمية حصى في حين أن جسده يكبر. فلو كانت الروح تتخلص من وزنها لكان الإنسان يتخلص من شخصيته، ولو أن الذي فات مات لماتت معه الروح.
لذلك لم يمت فينا شيء من الذي فات، وكله محفوظ، وكله عبء محمول، وكله تعب وكله نصب، تحمله هذه الروح المسكينة التي لا يراها صاحبها لكنها تراه؛ ولذلك ينساها وهي تذكر منه ما نساه، ويخوض التجارب يدفعه إليها حماس الفضول، وهي الضحية التي تحمل خيبة المنتهى، وتسمع الصباح التالي وهي هرمة مواسٍ يقول لصحابها (الي فات مات) هلم انهض إلى تجربة جديدة، قبل أن يهرم عمرك الجسدي!
هل تستطيع أن تمشي الآن بعد أن تتخيل وزن روحك الذي تحمله؟
** **
- سراب الصبيح
sarabalwibari@gmail.com