يزخر التراث العربي القديم بقصص عجيبة، تمتزج فيها الحقيقة مع المجاز، ويتداخل الواقع مع الخيال، ويحضر الحلم في اليقظة، ويبدو المستحيل ممكنا، وتغدو تلك القصص على كل لسان، وكأنها تأليف جماعي، أو إرث إنساني مشترك، لتؤسس الخلاص من واقع بئيس، وتمارس دورها العلاجي لأزمات نقص الغذاء والدواء، وتحقيق الأمن والرخاء، في عالم يغيب فيه كل شيء إلا القصص العجيبة التي تحضر بجبروتها وسطوتها وأنسها وحنانها، فيستأنس الإنسان بالحكايات العجيبة التي توظّف الجن باعتباره كائناً خارقاً بإمكانه أن يحقق المستحيل، وأنْ ينتشل هذا الإنسان من واقع متأزم وصعب، وبذلك يكون «الجن» ملاذاً للمقهورين والمنبوذين، وتصبح حكايات الجن تعبيرا عن مجتمع متطلع لأكثر مما تصل إليه يده، فيصل لمراده عبر طرق غيبية توظف ما وراء الحس والإدراك.
تذكر بعض التفسيرات أن الجن قد خُلِق قبل آدم بستين ألف سنة، وأن هذه المخلوقات كما قال الإمام القرطبي، قد تُسعف الإنسان على خرق العادات مما ليس في مقدور البشر من مرض وتفريق وزوال عقل وتعويج عضو مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد. وفي القرآن الكريم ذُكرت كلمة «جن» أكثر من عشرين مرة، بل توجد سورة تحمل اسم سور الجن، وهناك عشرات الأحاديث تصف عالم الجن وخصوصياتهم، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول الله، قال: وإياي ولكن ربي أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير»، ويدل هذا الحديث أن تأثير الجن على الإنسان لا يتجاوز الوسوسة والتشويش الذهني، فكلمة «وَكَلَ» تحمل معاني الضعف والعجز والاعتماد على الغير، وكلمة «وُكِلَ به» تعني استسلم إليه، وهي معاني تنسجم مع خصوصيات الإنسان القلق، والذي يشعر بالعجز أمام مصائب الدنيا وصعوبات الحياة، فيميل إلى إسقاط فشله وعجزه على كائنات غير مرئية تتسم بالقوة الخارقة والتأثير المباشر في حياته، وذلك تملّصاً من المسؤولية وتخلصاً من الشعور بالذنب عندما يقصّر في بذل المجهود، أو عندما لا يجد تفسيرا منطقيا لفشله، وهكذا يحتاج هذا الإنسان/ العاجز إلى شيطان/ جني قوي كي يحس بالأمان ويحقق بعضا من توازنه الداخلي.
ولما كانت حياة الإنسان العربي القديم قائمة على الترحال والتنقل، فإن بعض الحكايات العجيبة قد شكّلت عائقا أمام تنقله بحرية وأمان، حيث تصنع في ذهنه صورا مخيفة لكائنات عجيبة، مهمتها «تضليل المسافرين»، ويأتي «الشق» و»الغول» و»الجن» على رأس تلك المخلوقات التي كانت تخرج للمسافر، وخاصة إذا كان وحده، فتعترض سبيله، وتعمل على تحويل مساره، بل قد يفقد حياته في حالة مواجهتها أو مقاومة رغباتها، ولكثرة ما كانت تروى مثل هذه القصص، صدقها الإنسان العربي وآمن بها أشد الإيمان واعتقد بتأثيرها عليه، حتى إذا انطلق مسافرا في الصحاري والفيافي أخذ يتحدث عن رؤيته لها وصراعه معها، فيضيف إلى جانب ما ترسّخ في ذهنه من حكايات حول تلك المخلوقات الغامضة تفاصيل أخرى من وحي رحلاته الطويلة، ومن ذلك يذكر قتاله لها وانتصاره عليها، ولا يكتفي بوصف بطولاته في غلبة الكائنات الخارقة، وإنما يحمل معه من آثارها الدليل المادي على شجاعته، فهذا تأبط شرا يزعم «أنه لقي الغول في مكان بالحجاز يدعى رحا بطان، وجرى بينه وبينها محاربة، وأنه قتلها وحمل رأسها إلى الحي، وعرضها عليهم حتى يعرفوا شدة جأشه وقوة جنانه».
يبدو أن مثل هذه الحكايات التي تُظهر انتصار العربي على المخلوقات المخيفة، تريد أن تقول أن مفارقة الديار والتنقل بين البلدان البعيدة، عملٌ لا يقدر عليه سوى الأبطال والشجعان من الفرسان والشعراء، ونظراً لمكانة الشاعر في البيئة العربية، فإن الشعراء يجب أن يتصفوا بشدة الجأش وقوة القلب وصلابة العزيمة، فلا ترهبهم النيران التي كان يوقدها الغيلان بالليل لتضليل المسافر وإخافته، بل إن أصوات تلك الكائنات العجيبة، تتحول إلى لحن يطرب له الشاعر، ويصير لهيب نيرانه ألوانا زاهية يستمتع بها، وفي هذا المعنى، قال الشاعر:
فلله در الغول أي رفيقة
لصاحب قفر حالف وهو معبر
أرنَّت بلحن بعد لحن وأوقدت
حواليَّ نيرانا تلوح وتزهر
إذ تتحول مظاهر الرعب، إلى تجليات للجمال واللذة والمتعة، وبدل أن يشعر القلبُ بالخوف والفزع، فإنه يطرب ويترنم ويسعد، وتلك قدرةٌ لا يتصف بها إلا الأبطال من الشعراء.
** **
د. خالد التوزاني - باحث وناقد مغربي (رئيس المركز المغربي للاستثمار)