هِيَ السِحرُ إِلّا أَنَّ لِلسِحرِ رُقيَةً
وَأَنِّيَ لا أُلفي لَها الدَهرَ راقَيا
«قيس بن الملوح»
وأغراني الضوء الهارب من العتمة في قلبي فقلتُ مهلاً لأجد شاعراً يرثيني. إنها عاصفةُ الشّعر: لا تُبقي ولا تذر. وقد هبت تلك العواصف على الشعراء في الجاهلية وأخذت منهم مأخذاً، بحيث سُمّي لكلٍّ منهم شيطانه من الشعر الذي يمده بالبلاغة والفصاحة من سحر الكلام وبيانه. ومما جاء في الأدب الشعري أسماء شياطين الشعراء الذين غالبا ما أخذوا صفة الأنوثة.
فإذا ما ورد الشاعر وادي عبقر، ألقت عليه جنيات الشعر من سحرها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت وخرج يناجي الليل والسَحر بسِحْر الكلام ونثر البيان.
وفي روايات أخرى تغلب عليهم صفة الذكورة ويأخذون أسماء الإنس مع دلالة لمعنى اسم جني الشعر وفقا لوظيفته التي يقوم بها مثل: لافظ بن لاحظ قرين أو جني امرؤ القيس وهاذر بن ماهر، وهو شيطان شعر النابغة الذبياني، ومسحل بن أثاثة وهو صاحب الأعشى وغيرهم. فهل من دلائل على وجود جنيات الشعر لدى الشعراء بصورة عامة؟.
ذكر د.مبروك المنّاعي في كتابه الشعر والسحر أن المعتقد الشعبي قد ربط الخلق الشعري بعالم الجن قبل الإسلام وبعده. وقد شرح في كتابه ذلك التناغم الواضح بين السحر الأبيض والسحر الأسود والشعر الأبيض والشعر الأسود مشيرا للذم والمدح. كما يلتقي الشعر بمبدأين أساسيين مع السحر وهما: المشاكلة وسحر المحاكاة / المناعي، 2004.
وقد أثبتت الكثير من الدراسات أن هذا الاعتقاد يتبع علم الأساطير القديمة/ الميثولوجيا/ والتي لم تكن بمنأى عن الأساطير اليونانية والرومانية القديمة. فهي جزء من الميثولوجيا البشرية. لذلك نحن هنا لا نخوض في مصداقية وجود شياطين الشعر أم لا. بل نغوص في الدلالات الرمزية لتلك المقولة. لأن القدرة التصويرية التي يمارسها الشاعر وتخيل ما ستكون عليه الحال هو يشبه ما يقوم به السحر من خلال توقعه ما سيحدث.أو الإخبار عن الغائب. لكن هذا التوافق لا يعني أن الشعر بمنأى عن السحر لا بالمعني المادي وإنما بالدلالة والرمز. وفي مرحلة ما أعتقد أن ذلك كله هو جزء من شخصية الشاعر ذاته الذي ينفرد بمعجمه اللغوي والشعري دون سواه. وبالتالي قدرته التنبؤية أو التصويرية أو تخيل الغيب أو ما شابه ذلك.
هذا التساؤل يقودنا إلى ذلك الطابع السحري الذي تجود به القصائد والخيال الذي يمتطي اللامعقول في الوصف والكلام المجاري وأشكال فذة من الاستعارة والتصوير الذي يظن معه القارئ أن الشاعر قد ركبه جني الشعر لما جاد به من خارق الكلام ودقيق الوصف ورصانة المشهد. فهل يصنع السّحرُ الشّعرَ: الشعر كلام ظاهري وآخر باطني. وكلاهما الباطني والظاهري أداتهما اللغة، والشاعر يحتفظ بتاج ملكه أبد الدهر لتصدق المقولة القائلة المعنى في قلب الشاعر.
حسب اعتقادي يبقى التأويل والتفسير في النص الشعري من حق الشاعر. ولا يمكن أن يأخذ منحنى ثابتاً حتى وإن تشابهت صور شاعرين لكنَّ مغزى المعرفة المأمولة من النص مختلف تماما. فلماذا تاجُ مُلك القصيدة يبقى للشاعر؟ لأنَّ الباطن المعرفي والانفعالي الذي أنتج القصيدة بقدر ما هو فردي هو من ذاكرة جمعية. تبدأ من وادي عبقر/ حيث الشاعر وجنيته/ إلى أستار الكعبة عندما كانت تعلق المعلقات عليها بماء الذهب. و هذا ما لم تنكره العرب منذ القديم وقد عرف في الأدبيات البلاغية عن وادي عبقر ودوره في إلهام شعراء الجاهلية شعرهم الذي ما زال سحره وروعته وبلاغته قائما إلى اليوم. فهل وادي عبقر هو حقيقة؟ أم أنها العاصفة التي تداهم وادي الشعراء فلا تبقي ولا تذر منهم إلا من كان ثقيلا لا يغريه عذب الكلام ولا سحر الخيال. لتصبح مفردة السؤال للشاعر المبدع: أوقد زارك شيطان شعرك؟
وحين قيل عن الشعر إنه ديوان العرب فلأن الشعراء وضعوا كل قصصهم وأحلامهم وعشقهم وشجونهم وفي الشعر ولكن الفرق بين قصيدة وأخرى هو ذلك السحر العذب الذي يفيض به شاعر عن آخر. فإذا لم يصنع السحرُ الشعرَ! فهل يصنع الشّعرُ الّسحرَ؟ في قصيدة امرؤ القيس إجابة للسؤال:
وليلٍ كمَوجِ البحر أرخى سدولَه
عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لمّا تمطّى بصُلبه
وأردف أعجازًا وناء بكلكل
فإذا ما وصل إلى:
مِكرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدْبِرٍ معًا
كجُلمودِ صخرٍ حطّه السيلُ من علِ
أقف مذهولة كلما حاولت تتبع الحركة في الشعر الانتقال العبقري للصورة، فهل هذا سحر الشعر؟ نعم هذا هو السحر.. وهل يُنتج الشعرُ فعل السحر؟
وهو ذات السحر في قصيدة الشاعر اليمني محمد أحمد المنصور (سِحْرٌ وسَحَر):
آمنتُ بالسّحْرِ في الألحاظِ يا سَحَرُ
وفي ائتلاف الجبينِ الغضِّ يا قَمرُ
آمنتُ فيك بلا رسلٍ ولا كُتبٍ
كلا ولا جَاءني أمرُ ولا نذر
** **
د. زرياف المقداد - ناقدة مقيمة في فرنسا, جامعة دمشق - سابقًا-