الاعتقاد بأن لبعض الشعراء توابع من الجن أو أن لكل شاعر تابعاً أو «قريناً» من الجن يلقنه الشعر، أو يستوحيه منه اعتقاد قديم، منذ ما قبل الإسلام في الثقافة العربية والمشهد الشعري العربي حتى الوقت الراهن، وليس بجديد! وأذكر هنا -بالمناسبة- قول امرئ القيس حين يوحي للناس بعلاقته بالجن:
أنا الشاعرُ الموهوبُ حولي توابعي
من الجِنِّ تروي ما أقولُ وتعزِفُ
فهذا الاعتقاد -إذن- اعتقاد باطل وغير صحيح على أرض الواقع الفعلي. ويمكن أيضا أن نصفه بأنه اعتقاد «مفبرك» متعمد في بعض صوره، اعتمده بعض الشعراء العرب قديما وحديثا للفت أنظار الناس اليهم، أو لينسجوا حول شخصياتهم أو تصرفاتهم أو أساليبهم الشعرية هالة من الإثارة لجلب اهتمام الجمهور أو شحذ فضولهم لمعرفة المزيد مما لديهم من شعر أو إبداع!! ولكن اهتمام المتقدمين من العرب بهذا الموضوع أو هذا الاعتقاد من رواة الشعر والإخباريين رسخ هذا المفهوم «الأسطوري» الخيالي في ذهن المتلقي العربي مع مرور الزمن وأضفى عليه شيئا من المصداقية أو لنقل «القبول» لدى عامة الناس، لكون هذا الاعتقاد - وان كان غير صحيح أو مخالفا للواقع - فإنه من الناحية الأدبية مقبول، وله قيمته الفنية ويثري القصيدة بأبعاد خيالية ماتعة كثيرة، وهو يطلق العنان لذهن الشاعر والسامع أو المتلقي بوجه عام نحو آفاق خيالية واسعة، قد لا يوفرها له الواقع الحقيقي الجاف الخالي من التخييل والإثارة واكتشاف أساليب جديدة من التعبير! ونحن نتفق جميعا على أن الشعر - وبعيداً عن عالم الجن - ليس بشرط أن يتفق مع الواقع المحيط في كل كبيرة وصغيرة، فربما يتفق معه أحيانا، وقد يسايره في بعض الحالات، لكنه أيضا قد يخالفه أحياناً أخرى. وأذكر من أولئك الكُتَّاب أو الأدباء العرب القدماء الذي أسهموا في تغذية هذا الاعتقاد في أذهان الناس، على سبيل المثال: أحمد ابن شهيد الأندلسي المولود عام 382 هـ في «قرطبة» الذي توسع في هذا الموضوع توسعا كبيرا في كتابه»التوابع والزوابع» مستخدما خياله الأدبي الواسع في رسم علاقته بتوابعه من الجن، كما ذكر فيه زيارته لوادي «عبقر» وادي شعراء الجن، وإيراده أشعارا أو أبياتا من الشعر على لسان بعض شعراء الجن منسوبة لكبار شعراء العرب القدامى من أمثال : امرئ القيس وطرفة بن العبد وأبي نواس والبحتري والمتنبي وغيرهم! رغم أن «ابن شهيد» نفسه لا يُؤْمِن بهذا الاعتقاد أصلا، ولم يجزم بحقيقته ، وإنما أشار إلى وجوده بالنسبة إليه وتعمد انتهاجه، وتصرف فيه تصرفا فنيا، فيه إبداع وخروج عن المألوف، ليكون مقبولا لدى القرّاء أو عامة الناس، وهو يعلم فيما بينه وبين نفسه انه اعتقاد لا يصح، وفيه تجاوز للواقع. لكنه لا يريد أن يعلن للناس في عصره الذي عاش فيه انه هزلي أو غير جاد، أو أن اعتقاده غير سليم في كل ما ما جاء في كتابه المذكور. يعني باختصار شديد، أول : إن ابن شهيد في هذه الحالة ينطبق عليه قولنا بالتعبير الدارج على ألسنة الناس «كذب الكذبة وصدَّقها» . وهذا نوع من المكابرة والتحدي المستفز الذي أراد من ورائه ابن شهيد أن يفحم خصومه في الشعر والأدب ليثبت مكانته الشعرية والأدبية في عصره الذي عاش فيه. واعتقد إن من أفضل ما اطلعت عليه من كتب المعاصرين الذين بحثوا في هذا الجانب من التراث العربي - على كثرتها - كتاب «شعر الجن في التراث العربي» للدكتور عبد الله بن سليم الرشيد، الصادر قبل بضع سنوات عن «المجلة العربية» والذي كان عبارة عن بحث توسع فيه بالحديث عن علاقة الجن بالشعر والشعراء وما قيل فيها، وما توارثته الأجيال وتناقلته عنها جيلا بعد آخر، وناقش فيه الرشيد مدى صحة هذا الاعتقاد وحقيقته من نواحي عدة: شرعية وتاريخية وأدبية ولغوية وفنية. وكيف أن هذا النوع من الشعر له قيمته الأدبية الفنية كموروث أدبي ثقافي حتى وإن كان الاعتقاد في مصادره غير صحيح أو غير سليم! سواء كان منسوبا للجن على ألسنة الشعراء أو العكس، أو كان من وضع الشعراء والرواة والإخباريين على ألسنة هذه المخلوقات!
** **
- حمد حميد الرشيدي