تساءلت الناقدة - كلية الآداب - جامعة الجوف, الدكتورة (سمر السقا) ما إذا كان علينا الأخذ بما جاء في التراث خصوصًا ما كان ينافي العقل, مشيرة إلى رأي فراس سراح «أن الدين معتقد بسيط تتركز حوله بضعة طقوس», وأن التعبير الجمعي عن الخبرة الفردية، وترشيدها في قوالب فكرية وطقوسية وأدبية ثابتة، وما هو إلا الدين الذي تؤمن به جماعات كبيرة وشعوب بأكملها ويعدّ ظاهرة جديدة في تاريخ أي دين وأي حضارة، وقالت: هل كل ما قدمه التراث - ولو كان منافيًا للعقل- نأخذه بلا تفكير؛ فنصبح أسرى للموروث دون إعمال لهذا العقل «مع احترامنا لكل المعتقدات».
الالتفاتة الأولى للعقل نحو العالم الآخر كانت حادثة «الإسراء»، ومن ثم فقد عَرج بديع الزمان الهمذاني على هذا الحادث في مقامةٍ له قال فيها: حَدَّثَنْا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: أَضْلَلْتُ إِبِلاً لِي، فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهَا، فَحَلَلْتُ بِوادٍ خَضِر، فَإِذَا أَنْهَارٌ مُصَرَّدَةٌ، وَأَشْجَارٌ بَاسِقَةٌ، وَأَثْمَارٌ يَانِعَةٌ، وَأَزْهَارٌ مُنَوِّرَةٌ، وَأَنْمَاطٌ مَبْسُوطَةٌ، وَإِذَا شَيْخٌ جَالِسٌ، فَرَاعَنِي مِنْهُ مَا يَرُوعُ الوَحِيدَ مِنْ مِثْلِهِ، فَقَالَ: لاَ بَأْس عَلَيْكَ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَأَمَرَنِي بالجُلُوسِ فَامْتَثَلْتُ...فَقُلتُ لَهُ: إِيهِ، فَأَنْشَدَ
فَقَالَ: بِئْسَ لَعَمْرِي أَنْتَ مِنْ رَجُل
ٍفَقُلْتُ كَلاَّ فَإِنِّي لَسْتُ بِإِبْليسِ
قَالَ: فَطَربَ الشَّيْخُ وَشَهَقَ وَزَعَقَ، فَقُلْتُ: قَبَّحَكَ اللهُ مِنْ شَيْخٍ لاَ أَدْري أَبِانْتِحَالِكَ، شِعْرَ جَرِيرٍ أَنْتَ أَسْخَفُ أَمْ بِطَرَبِكَ مِنْ شِعْرِ أَبي نُوَاسٍ وَهْوَ فُوَيْسِقٌ عَيَّارٌ؟؟. فَقَالَ:... أَمْلَيْتْ عَلَى جَرِيرٍ هذِهِ القَصِيدَةَ، وَأَنَا الشَّيْخُ أَبُو مُرَّةَ.
وتابعت الناقدة السقا: يعدّ (بديع الزمان الهمذاني ت395هـ) من أوائل من رسموا الشيطان في عمل قصصي وذلك في (المقامة الإبليسية) السالف ذكرها، وتبعه بعد ذلك في توظيف الشيطان والجن في عمل سردي (ابن شهيد الأندلسي) ت 426هـ في رسالته (التوابع والزوابع) التي تعرفنا عليها من خلال كتاب (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسام ت542ه )، والمتتبع للنص يكتشف أن صاحبه مبدع واعٍ، تبلورت الفكرة لديه من خلاله حس خياليّ، جعلنا نعبر من خلاله إلى عوالم موازية متعددة، زاوج فيها بين التجربة والعقل والروح وكانت مفتاح العبور إلى العالم الموازي الذي جنده لنصرته.
عنوان الرسالة يوضح مستوى تأثر المبدع بالتراث الإسلامي الذي استوعب نص الإسراء والمعراج كعالم موازٍ، وقد نفذ من خلال هذه الرحلة من خلال استعانته بالمسخرين، وهم إما التوابع (جمع تابع وهو من يتبع الإنسان من الجن)، أو الزوابع (وهو اسم شيطان أو لعله رئيس الشياطين أو الجان) فسخرهم له؛ لتكون له الغلبة في كل ما يورد من لحظات مطبوعة في عالمه الموازي.
ربما يكون من أهم الدوافع التي أملت على ابن شهيد القيام بوضع هذه الرسالة ما عاناه من التضييق عليه من رجالات عصره، فاتخذ سبيله في إطار صنع عالم موازٍ ذي طبع خارق عجائبيّ، مكنه من أن يحلّق في سماء الإبداع، بعيدًا عن الضيق والتضييق.
وتمثّل ذلك من خلال تعريجه على الشعر والنثر، حيث صنع صورًا فنية استحضر فيها كثيرًا من أعلام الفكر والأدب السابقين المعروفين، كأهل الطبع والحداثة والتجديد، فأجبرت تلك الآراء والأقوال التي جاءت على ألسنتهم علماء الأدب وشيوخ العلم في عصره على أن يتدارسوا أدبه، فجعل من التوابع والزوابع جندًا يؤيدونه وينجدونه في مواجهة كبار الأدباء من شعراء وخطباء، فتعاطفوا معه واستجابوا له دون تردد، وهو القائل: يحنون على أكباد غليظة وقلوب كقلوب البعران، ويرجعون إلى فطن حمئة، وأذهان صدئة.
وأكملت السقا بقولها: قدم ابن شهيد أبعاد فكرته الأدبية من خلال الارتكاز على معطيات الثقافة الجمعية؛ فجعل تابع الأديب صاحب رؤية، وبهذا أخرج الشاعر من القوانين السائدة في الحكم على الأدباء، وجعل الأديب يتلو ما تلهمه به توابعه وزوابعه، ورد النبوغ لأسباب خارقة لا يفطنها الأديب بعقله بل يستلهمها بروحه، وبهذا يتفق مفهوم الإبداع عند ابن شهيد مع ابن خلدون الذي كان يراه نتيجة لترسخٍ في النفس من تتبع التراكيب في شعر العرب، لجريانها على اللسان حتى تستحكم صورتها.
إنّ فكرة الإبداع الأدبي لم يقف طويلاً عندها ابن شهيد في رسالته؛ إنه يطيل الوقوف أمام الإلهام والإيحاء والمناجاة والاستدعاء وليس الإبداع؛ ولذا نرى ابن بسام يقول: «وكنت أبا بكر، متى أرتج على، أو انقطع بي مسلك، أو خانني أسلوب، أنشد الأبيات، فيمثل لي صاحبي، فأسير إلى ما أرغب، وأدرك بقريحتي ما أطلب، وتأكدت صحبتنا».
الرسالة تقف مناصرة لشأن البديهة والارتجال، وثقة الكاتب بأن الموهبة قادرة على الخلق والتكوين لتتجلى النصوص فهو «يدعو قريحته إلى ما شاء من نثره ونظمه، في بديهته ورويته، ونجد أنه في ثنايا تلك الرسالة لم يقدم ابن شهيد موازنة بين النثر والشعر فيقول «حللت أرض الجن أبا عامر، فبمن تريد أن نبدأ قلت: الخطباء أولى بالتقديم، لكني إلى الشعراء أشوق» وعليه العقل له الصدارة، ومع هذا النجوى المقفاة تنازعه.
واختتمت السقا في نهاية حديثها بقولها: في (التوابع والزوابع) نجد تلاقح الخيال بالعقل، حيث قدم لنا ابن شهيد عقلا لا يهاب التجربة، وسلط الضوء على الإطار الفلسفي الذي كان سببًا في ميلاد رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وقد أحسن ابن شهيد استخدام أسلوب فني ميزه عن غيره من الأدباء، فدق أجراسًا في ديار الجن بين الشعراء واستدعى المبدعين ليقيموا صلواتهم في محرابه، وغاص بعمق الفكرة، وتكلف في نظمه المسرود، واستطاع أن يسلط الضوء على المخبوء، ويكشف عن ما بنفسه من خصائص الإبداع والابتكار من خلال توظيف موضوعات الجن في حكايته، وما أضفته على المشهد الحياتي من أفكار وخيالات خلاقة.