تراثنا العربي مناجم ما تزال تمد العلوم الإنسانية بمختلف معارفها بالكثير من العمق والأصالة والتنوع والثراء، ما جعله امتداً لهويتنا، ورمزاً لخصوصيتنا التي نتميز بها عن غيرنا بين سائر الأمم، في بعديه المادي، وغير المادي، لذلك فإن جوهر تراث أي مجتمع من المجتمعات، بكمن في قدرته في الصمود أمام ما يمكن أن تصل به العولمة في هذا الجانب بتراث مجتمع ما من المسخ.. ومن ثم المحو من خارطة التراث العالمي ليكون بعد ذلك نسياً منسيا!
ومع أن التراث المادي، ثري بطبيعته في المجتمعات الإنسانية، وبتفاوت كبير أيضاً من مجتمع إلى آخر، لأسباب كثيرة لا يتسع المقام لعرض أبرزها، إلا أن التراث غير المادي، بمثابة المناجم التي لا بد لها من فاعلين في التنقيب عنها، واستثمار مقدراتها أيما استثمار! إذ إن التراث اليوم في جناحيه من الأذرعة الفاعلة والنشطة داخليا، وخارجيا لأي مجتمع قادر على التنوع في إنتاج تراثه، والدخول به كمنتج «بيني»، من منتجات القوى الناعمة، لجعله صناعة.. لا سلعة استهلاكية، ومنتجاً.. لا مادة خاملة، ومحتوى.. لا فكرة معروضة على قارعة التاريخ، وقنطرة اتصال وتواصل حضاري.. لا مجرد لافتات ومعروضات.. ومتناً.. لا هامشاً!
لذلك فإن عبقرية تراثنا، تكمن في قدرة نسيجه على إشاعة روح الهوية، والانتماء الوطني، والتماسك الاجتماعي، وإشاعة جماليات التنوع وفنونه الجمالية، وإضاءات ممتدة في عمق الأصالة، ورمزاً يفتح أمام ذهنيتنا الكثير من الفضاءات المعرفية لما يتميز به تراثنا من مقومات العبقرية، التي نجد ملامحها اليوم في البعد التنافسي الذي نتطلع إليه من خلال استراتيجية وزارة الثقافة، التي تترجم في هذا المضمار جوانب من رؤية المملكة 2030 في جانبها الثقافي، التي تستنهض عبقرية الإنسان، للنهوض بعبقرية المكان!
لكن ما الموقف من التراث؟ وهنا يمكن تصنيف الموقف من التراث إلى ثلاثة اتجاهات، أولها: موقف الهجر والقطيعة؛ أما الآخر فموقف التنكر والثورة على كل تراث؛ بينما يمثل الاتجاه الثالث «المرتحلون» بتراثهم، وهو ما يجب أن نكون عليه من قدرة علمية ومعرفية بإدارة عبقرية تراثنا، بالمراجعة، والتحقيق، والتمحيص، وتطوير أساليب تقديمه، وتسويق ثراءاته.. وثرواته المعرفية في ميادين تنافسية التراث العالمي، ليكون تراثنا بذلك الأصل.. والصورة.. والخطاب.. والقنطرة.. والصوت.. والصدى.. وفعل الاتصال.. وفضاء التواصل مع الحضارات.
* أثار العقاد أسئلة عبقرية الإنسان.. فأي «لجنة ستناقش» عبقرية المكان.. لمنحه درجة العبقرية؟!
** **
- محمد المرزوقي