كان للدكتور غازي القصيبي - رحمه الله - منذ أن بلغ الأربعين قصيدةٌ مع كل عقد من عمره؛ فضلاً عن الأبيات التي تتضمن إشارات عابرة للشيب أو الشيخوخة.
ففي الأربعين يرد على ابنته التي جعلت تقص شعراته البيض وهي تقول له: (لا أرضى لك الكبر). يقول من قصيدته (يارا والشعرات البيض):
يا دميتي حاصرتني الأربعون مدى
مجنونةً.. وحرابًا أدمت العمرا
فمن يردّ لي الدنيــا التي انقشعت؟
ومن يعيد لي الحلم الذي عبرا؟
وأنشأ قصيدته (أمام الأربعين) التي يقول في مطلعها إنه أمام الأربعين، كمن يشاهد شريطًا ملونًا بالنقيضين: المباهج والأحزان:
وهـاأنـذا أمـام الأربعينِ
يكاد يؤودني حمل السنين
تمرُّ الذكريات رؤى شريط
تلون بالمبـاهج والشـجون
إذا ما غبت في طيف سعيد
هَفَتْ عيني إلى طيف حزين
وفي الخمسين نظم قصيدته التي مطلعها:
خمسون.. تدفعك الرؤيا فتندفــعُ
رفقـا بقلبك كـاد القلب ينخلع
من الفيافي التي آبـارها عطـش
إلى البحار التي شـطآنها وجع
وأنت في أذرع الإعصار متكئ
على الرياح.. فما ترسو ولا تقع
وتساءل فيها بدهشة: أما ملَّ بعد هذه الجولة الطويلة في الحياة وهذا الصراع اليومي؟
خمسـون ما مـرَّ يـوم دون معركة
أما تولاك فــي أحضانها الجزع
خمسون ما مر يوم دون جرح هوى
ألم يمزق حشــاك الوجـد والولع
خمسون مـا مـر يـوم دون أغنية
أما سئمت القوافي وهي تصطرع
خمسون دبَّـتْ إلى الفودين فاشـتعلا
وا حرقة الرأس فيه الشيب والصلع?
وأنـت ما زلـت طفـلاً في مباذله
فأين منــك الوقار الحلو والورع
وتلاها قصيدته في الستين التي يتصور في مطلعها غانية تغويه، ويصفها بالشيطانة، لكنها (أحلى الشياطين)، افتتحها بقوله:
برزتِ في عامي السـتين تغوينـي
يا نشوة العيش يا أحلى الشـياطين
إذا شـكوت مـن الإعيـاء أيقظني
شوق إلى الشوق يدعوني فيحييني
وإن تململت من ضعفي أطل هوى
غضُّ الشباب إلى العشرين يلويني
هذي المغامِـرةُ الحسـناء أعشقها
برغم ما أغمـدت بي من سكاكيني
وكأنما استبطأ عقد السبعين، وصار عنده هاجس ألا يدركه، فكتب قصيدته التي افتتح بها ديوانه الذي أعطاه الاسم نفسه (حديقة الغروب)، وكان في الخامسة والستين.
ومع أن مشيئة الله أرادت للقصيبي أن يبلغ السبعين، ويكتب قصيدته الأخيرة (سيدتي السبعون)، إلا أن (حديقة الغروب) فاقت في شهرتها كلَّ شِعره، واحتفل بها الأدباء في كل أرجاء الوطن - وما أكثر أصدقائه ومحبيه ومريديه - لأنهم قرؤوا فيها رثاءه لنفسه. لقد أزعجتهم القصيدة أكثر مما أعجبتهم. وقد عارضها أكثر من شاعر، أخذ كل منهم يفنِّد ما أورده فيها داعين شاعرهم الكبير إلى الرفق بنفسه وبهم.
بدأ القصيدة بسؤاله المحوري الذي ردده في قصائد سابقة (أما مللت؟)، وبالرد على نفسه (بلى):
خمسٌ وستُونَ في أجفان إعصارِ
أما سئمتَ ارتحالاً أيّها الساري
أما مللتَ من الأسـفارِ ما هدأت
إلا وألقتـك في وعثـاءِ أسـفار
أما تَعِبتَ من الأعداءِ مَا برحوا
يحاورونـكَ بالكبـريتِ والنـارِ
ثم يتجه بحديثه - أو وصيته - لثلاثة من الذين يهمه أن يستمعوا إليه. وصيته الأولى لرفيقة دربه:
أيا رفيقةَ دربي!.. لـو لـديّ سوى
عمري.. لقلتُ: فدى عينيكِ أعماري
إنْ سـاءلوكِ فقولي: كان يعشقني
بكلِّ ما فيـهِ من عُنـفٍ.. وإصرار
وإنْ مضيتُ.. فقولي: لم يكن بطلاً
لكـنـهُ لـم يقـبّل جبهةَ العارِ
ووصيته الثانية لمعجبة بأدبه:
وأنتِ!.. يا بنت فجـرٍ في تنفّسه
ما في الأنوثة من سحرٍ وأسرارِ
ماذا تريديـن مني؟! إنَّنـي شَـبَحٌ
يهيـمُ مـا بيـن أغلالٍ.. وأسوارِ
لا تتبعيني دعيني واقرئي كتبـي
فبيـن أوراقِـها تلقـاكِ أخبـاري
وإنْ مضيتُ فقولي لم يكن بطلاً
وكان يمـزجُ أطـواراً بأطـوارِ
وأما وصيته الثالثة فلوطنه:
ويا بلادا نذرت العمـر.. زَهرتَه
لعزّها دُمتِ.. إني حان إبحاري
إن ساءلوكِ فقولي: لم أبـعْ قلمي
ولم أدنّس بسوق الزيف أفكاري
وإن مضيتُ فقولي لم يكن بطلاً
وكان طفلي ومحبوبـي وقيثاري
ويختم رائعته أجمل ختام بدعائه لخالقه:
يا عالم الغيبِ ذنبـي أنتَ تعرفُـه
وأنت تعلمُ إعلاني.. وإسراري
وأنـتَ أدرى بإيمـانٍ منـنتَ به
عليَّ.. مـا خَدَشَـتْه كلَّ أوزاري
أحببتُ لقياكَ حسن الظن يشفع لي
أيرتُجـى العفـو إلاّ عند غفَّارِ؟!
** **
- سعد عبدالله الغريبي