د.محمد بن عبدالرحمن البشر
التمازج العربي بين المشرق والمغرب قديم قدم التاريخ، ولم يكن وليد الفتوحات الإسلامية الحديثة؛ فهناك من يقول إن الساميين قد نزحوا من شرق إفريقيا أو دارفور، وتوجه بعض منهم إلى شمال إفريقيا، والبعض الآخر عبروا الدلتا في شمال مصر في فترة الجفاف التي حلت بالمنطقة منذ ستة آلاف عام قبل الميلاد متوجهين إلى بلاد الشام وما بين النهرين، واختلطوا مع السكان الأصليين مشكلين أعراقًا مختلفة.
وفي نهاية الألف الثاني قبل الميلاد أي نهاية العصر البرونزي، وفي حدود ألف ومائتين وخمسين سنة أو أقل، تدفقت مجموعات من الفينيقيين سكان الساحل الفلسطيني والسوري واللبناني باحثين - فيما يبدو - عن ملاذ بعد تدفق شعوب البحر الإيجييه نحو مصر والشام عازمين على البقاء والاستقرار هناك؛ ربما لذلك الجفاف الذي أصاب المنقطة، أو الحروب بينهم، أو ربما لضغوط اقتصادية لاعتمادهم على سلعتين فقط (زيت الزيتون والنبيذ)، وحاجتهم إلى القمح والذرة والأعلاف، والمواشي، وأنواع الخضراوات المختلفة.
سارت جموع الفينيقيين بمحاذاة ساحل البحر الأبيض المتوسط، وهم بحارة ماهرون، وتجار قادرون، لكنهم لا يستطيعون النزول بمصر؛ لأنها محصنة، وبها دولة قوية قائمة، كانت حاكمة لجزء من الشام، فذهبوا إلى أبعد من ذلك؛ ليجدوا ضالتهم في تونس، والجزائر، والمغرب العربي، فكوّنوا مدنهم، ونقلوا معهم حضارتهم، وتمازجوا مع سكان تلك البلاد الذين يتقاربون معهم في الأصل والثقافة حتى وإن كان ذلك منذ زمن طويل، وعاشوا هناك مكونين شعبًا واحدًا وثقافة واحدة.
في عام 814 قبل الميلاد هربت أميرة فينيقية من مدينة صور على الساحل اللبناني الحالي؛ وذلك بسبب جور أخيها الملك وظلمه لها وقسوته، حتى أنه أقدم على قتل زوجها. وهذه الأميرة الرائعة اسمها عليسة، وقد حرفت مصادر في اللغة اليونانية اسمها، وسميت أليسا، وهو اسم شائع اليوم.
هربت عليسة وحاشيتها وأعوانها بطريقة سرية في جنح الظلام، وتبعها فيما بعد أناس كثير هربًا من ظلم أخيها الملك القاسي الظالم، وبحثت عن مكان مناسب، فوجدت ربوة جميلة في أرض تونس اليوم، تتميز بطقسها المتوسطي المناسب، فحلت بها، وتقول الأسطورة إنها طلبت من حاكم المنطقة أن تشتري قطعة أرض لا تزيد مساحتها على مساحة جلد شاة، وبثمن عال جدًّا، ففرح بذلك حاكم تلك البلاد وقبل العرض، لكنها أمرت أعوانها أن يفككوا الجلد على شكل خيوط دقيقة جدًّا وينشروه على الأرض، فغطت تلك الخيوط مساحة كبيرة من الربوة، وأسقط في يد الحاكم، وربما أنه أُعجب بذكائها وجمالها، فسمح لها بالبقاء، ومباشرة البناء. والحقيقة إن هناك مدينة قريبة من هذه المدينة الجديدة، يسكنها فينيقيون قدماء، سبق أن قدموا إلى هذه البلاد في قرون مضت، وتسمى الآن أتيكا أي العتيقة، وهي القديمة.
أنشأت هذه المرأة الفطنة مدينتها، وسمحت لكل الأعراق بالقدوم والسكن بها، فقدم مصريون، وليبيون، ويونانيون، وغيرهم؛ ولهذا فإننا نجد أسماء ترتبط بعبادات مصرية مثل عبد رع أو يونانية أو غيرها دون حساسية أو تنافر، وكان التزاوج بين الفينيقيين القادمين، ومن قدم بعدهم، وأصحاب الأرض الأصلية قائمًا مع بعضهم دون عوائق تذكر.
استطاعت الأميرة عليسة أو أليسا أن تنشئ قاعدة لإمبراطورية عظيمة، استطاعت أن تعبر فيما بعد جبال الألب، وأن تقرب من أسوار روما، وأن تكون لها مستعمرات ومراكز تجارية على طول ساحل المتوسطي؛ لتمتد جنوبا على الساحل الأطلسي الإفريقي جنوبًا حتى وسط إفريقيا، وأن تتوجه شمالاً، بمحاذاة الساحل الإسباني، وما بعده شمالاً حتى الساحل البريطاني، وأن تتجه من الوسط جنوبًا إلى وسط إفريقيا ما بعد الصحراء، واستمر سلطانها ذلك حتى القرن الثالث، لكنها بعد ذلك أصبحت في أعين الطامعين غنيمة، وفي قلوب الخائنين خطيرة، فتعرضت لثلاث حروب متتالية وقاسية، كانت بين روما وإمبراطورية قرطاجة، وتسمى بالحروب البونية الأولى والثانية والثالثة، وفي بداية تلك الحروب استطاع قائد قرطاجي مميز واستثنائي، يسمى حنبعل، أن يحقق بطولات، وقد حرف الاسم إلى هنيبال، وأذكر أن أحد حكام العرب السابقين قد سمى أحد أبنائه بهذا الاسم. واسم قرطاج جاء من كلمتين فينيقيتين ساميتين كنعانيتين، هما قرت حدشت، أي القرية الحديثة، أو المدينة الحديثة أو ربما المقر الحديث، وجمعت لتسمى قرطاجة.
ربما يغضب الإنسان من أمر ما، ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا؛ فقد قهرها أخوها، لتذهب إلى بلاد تحكمها وتعيش فيها ملكة، وتكون إمبراطورية عظيمة، خلدت اسمها، وأحفادها، وجعلها تضيف تلاقحًا عرقيًّا وثقافيًّا إضافيًّا بين شعب واحد، تقع مجموعات منه في المشرق وأخرى في المغرب.