جهاد سليمان
شكل عام 1948 محطة مفصلية في تاريخ تطور الثقافة الفلسطينية، كما مسار التطور الاجتماعي الطبيعي للشعب الفلسطيني؛ فلم تنعكس صدمة النكبة الفلسطينية الكبرى على الجانب الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للشعب الفلسطيني فقط؛ بل طالت مسار التطور الثقافي، الذي شهد مبكرًا نهضة مرموقة في فلسطين على يد من يطلق عليهم «طلائع النهضة الفلسطينية»، الذين وضعوا إسهامات وازنة في ميادين الإبداع الثقافي منذ بداية القرن التاسع عشر، وكان لهم دور بارز في تطوير الحياة الثقافية في المنطقة العربية، بالتكامل مع أعمال آخرين من مبدعي ومثقفي الوطن العربي، الذين لا نبالغ إذا ما أكدنا على الدرجة العالية ذاتها من أثر الصدمة التي أصابتهم بالمستوى ذاته الذي طال المثقفين الفلسطينيين، كطليعة تمتلك القدرة على التعبير عن حالة الشلل الجماعية التي أصابت الحواس الفلسطينية الخمس في لحظة الانفجار الاجتماعي، وتطاير أشلاء العائلات الفلسطينية بين الإبحار نحو آخر يابسة عربية من جزيرة الوطن الآخذة بالغرق، بفعل «تسونامي التهويد» للغة، والتراث والحضارة والتاريخ، وأسماء المدن والقرى والمؤسسات وجوازات السفر، والنشيد الوطني، وشروط الولادة والوفيات، وبين الانتظام في طوابير الرحلة الأخيرة نحو خيام «الكرم» الدولي، التي مُنحت لهذا الزبد الهش المندفع نحو المجهول.
إنّ حالة «التيه» الجماعية الناتجة عن ولادة وضع مختلف بتفاصيل جديدة أدت بشكل مباشر إلى صياغة معجم للمعاني المستحدثة للخصوصية الفلسطينية الناشئة، يشكل لغة تواصل وتفاهم جماعية بثقافة جديدة، تتطلب وتفرض عناية أكثر في عملية إعادة جمع تفاصيل الهوية المهشمة، كقطع البلور المتناثرة على رمال متحركة، تكتشف جزءًا منها يلمع مع اشتداد حرارة الصحراء الرهيبة، ويختفي جزءٌ آخر؛ ليشكل أحد أكثر العوائق ألمًا لمسيرة تجميع الثقافة مرة أخرى؛ إذ تقترن عملية إخراجه بجرح في خُمص الأقدام السائرة مع بداية هذا الدرب الشائك الطويل؛ وهذا ما جعل من المكان أحد أهم العناصر، والأجزاء المفقودة من تحفة الهوية الكريستالية؛ لما يمثله المكان من حاضنة تبلور هذه الثقافة وهذه الهوية، ولما يوفره من تربة خصبة، تنمو وتتجذر في أحشائه، مسيّرة التطور الثقافي؛ ما يجعل من مهمة فهم واقع المكان، وتفكيك جدلية الواقع الجديد، وتداعياته من حيث «اللامكان»، الذي أصبح حاضرًا في تفاصيل الحياة اليومية، الملاصق لشعور «اللاانتماء»، أحد أبرز الملاحم التي تواجه فرسان الثقافة الفلسطينية، الذين عهد لهم مهمة النزال الثقافي مع ذوي الملابس السوداء، حراس الهيكل، ساردي قصص الأساطير، ومروجي سرديات الخرافات، على حساب رواية التاريخ والحضارة والتراث والجغرافيا الفلسطينية.
مثل المكان، وعلى الدوام، هاجس في وجدان وإبداع المثقف الفلسطيني، المنشد دائمًا لجدلية إبراز علاقة التوأمة بين الهوية والمكان، والتمازج بين كلا العنصرين الرئيسيين، وعلى امتداد السنوات الماضية، وبشكل خاص بعد نكسة عام 1967، وما نتج عنها من تداعيات انعكست بدرجة لا تقل قساوة عن النكبة الكبرى. وبعد أن غمر التيار الجارف الأجزاء المتبقية من المكان ذي الملامح الآخذة بالتحول شيئًا فشيئًا استنفرت الطاقة الثقافية، وعلى وجه الخصوص الأدبية والشعرية؛ لتسيل بكامل ما تختزن من الوجدانيات على أدراج البرج العاجي، الذي يسلكه مثقفو المقاهي الكلاسيكية، ليعيد إكساء العمل الثقافي الفلسطيني بشعبيته النابعة من ذات الهوية الجامعة التي تسم جميع من أصبحوا على مسافة واحدة من جدلية المكان وإثباته، في شقي الوطن المحتل، وفي داخل مخيمات اللجوء ودول المهجر. كما أدت اشتداد عاصمة «التهويد» لكل ما يدلل على تاريخ الهوية الفلسطينية، وجذور تكونها، ومسار تطورها، إلى تصعيد شراسة المعركة انطلاقًا من الفهم العميق لأهمية وعمق وحساسية الهزيمة في هذه الحرب؛ فالهزيمة في جولة، والفوز في جولة أخرى. على صعيد الجغرافيا، يمكن أن يشكل جانبًا أساسيًّا في هذه الحرب التي شنت على الشعب الفلسطيني. أما خسارة نزال المحافظة على الهوية وإشهارها فستشكل دون أدنى شك الهزيمة الحقيقية في هذه الحرب المصيرية.
في الحديث عن جدلية المكان، وما مثلته من جوهر وركن أساسي، وحيز وافر في تفكير العديد من المثقفين الفلسطينيين المعبّرين عن وجدانية جامعة ومصير مشترك للكل الفلسطيني أينما كانوا، نستطيع أن نلخص هذه الملحمة في مسار إعادة استنهاض الثقافة الفلسطينية، وإطلاقها من تحت ركام النكبات والنكسات، فيما تشابه من تفاصيل العمل الثقافي لاثنين من ألمع مثقفي الشعب الفلسطيني والعالم العربي كمثال وليس حصرًا، ممن عبروا بأعمالهم القارات، وجعلوا من فلسطين رواية مقروءة بالعديد من لغات العالم، بحيث وقفوا على المستوى ذاته من الجدلية مع المكان، وعبّروا عن انعكاسات «اللامكان» في تطور الثقافة الفلسطينية، ونعني هنا الشاعر محمود درويش (13 مارس 1941 - 9 أغسطس 2008)، والبروفيسور المفكر إدوارد سعيد (1 نوفمبر 1935 - 25 سبتمبر 2003).
ربما يتشارك العديد من المثقفين الفلسطينيين عناصر وصفات تسم حياتهم ومسارهم الثقافي النابع من وحدة الحالة الجامعة للكل الفلسطيني، ومن الوضع السياسي الخاص، إلا أن (درويش وسعيد) يتقاسمان فيما بينهم علاقة فريدة، وخصوصية الولادة في المكان (فلسطين)، والوفاة خارجه (الولايات المتحدة الأمريكية)، فللاثنين طفولة برونق فلسطيني خاص، حاضرة في تفاصيل حياتهم الأولى، إلى حين القفزة النوعية في شريط الذاكرة التي جعلت من الطفلين شابَّين مبعثرين على رقعة الشطرنج، دون أي قوانين ناظمة لطبيعة الحركة التي آلت بهما إلى تلك الحدود الجغرافية، وهذا ما نراه جليًّا في أعمالهما الأدبية والفكرية، ومحاولاتهما العديدة للدخول إلى ميدان المبارزة على إثبات علاقة الهوية التي ولدت نواتها في مكان الطفولة، وتشكلت بوعي جماعي، نقشتها الأحداث المتتالية.
ففي كتاباته العديدة حاول إدوارد سعيد إعادة «تعريب» نمطية عمله الذهني لفهم أكثر عمقًا لعلاقته بالمكان بعد أن وجد نفسه ذرة بين ناطحات السحاب في نيويورك، بحسب تعبيره، بعد أن كان مركز الجذب والاهتمام العائلي داخل بيته الحجري، حيث القيمة الحضارية الكبيرة والهوية الواضحة في حي الطالبية في القدس؛ لنرى أن الحديث عن الذاكرة، والتاريخ، والسيرة الذاتية، ارتبط بشكل كبير بالمكان وتقلباته، وهذا ما نتج عنه السيرة الذاتية الشخصية لإدوارد سعيد بعنوان «خارج المكان»، إذ تصعد مع كل صفحة من فصوله المصحوبة في بعض الأحيان، بصور توثق الطفولة والشباب داخل المكان، بطابع تراثي واضح، على بساط الريح «الإدواردي»؛ لتسافر بين فلسطين ومصر، والأردن، ولبنان، ونيويورك، ومرة أخرى إلى فلسطين، تطارد السراب الذي رسم له سعيد جناحين، وأطلقه كفريسة لمخيلة القارئ. واستطاع إدوارد سعيد، من خلال كتاباته، خوض معركته الواضحة مع المكان، بحيث حدد فلسطين نقطة الانطلاق، ونقطة العودة، مما جعل منه جيشًا من المقاتلين باللغة الإنجليزية دفاعًا عن الهوية الفلسطينية ومكانها؛ فقد مثلت فلسطين بالنسبة لسعيد محركًا رئيسيًّا إلى جانب قضايا إنسانية أخرى في تصعيد إنتاجه الفكري حول المكان، وانغماسه أكثر في إعادة بعث الروح للهوية الفلسطينية ذات اللسان العربي بداخله، عندما عاد إلى بيروت ليتلقى دروسًا خصوصية في اللغة العربية، مما أعاد وضعه مرة أخرى أمام مركز صراعه الداخلي، على تخوم الوطن المحتل جغرافيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا، وهذا ما عبّر عنه سعيد عندما كتب «الإنسان الذي لم يعد له وطن، يتخذ من الكتابة وطنًا يقيم فيه»، وهو تعبير عن أهمية تطوير المعرفة، وامتلاكها كسلاح في معركة إثبات المكان والعودة للإقامة فيه.
بدوره، كان للمكان بالنسبة لمحمود درويش إيقاع شعري خاص؛ ففلسطين بشكل عام، و»البروة» بشكل خاص، التي احتضنت خطوات الفلاح الصغير الأولى، وشجر الدوالي، التي ردد تحت ظلالها أبيات أبي الطيب المتنبي، شكلت بالنسبة له المعيارية في وجوده من عدمه؛ فكان درويش خارج المكان الأول، أي فلسطين كما عرفها، مجرد غيمة تسبح في سماء، تبحث عن حقل البذور الشعرية؛ لريها بما تختزن من تركيز لجميع المعاني الإنسانية والحضارية والتراثية للهوية الفلسطينية، إلا أن فلسطين التي عرفها هي تلك الخالية من مزيج صهاينة «الأشكنازيين والسفارديين»، أعداء الحبيبة اليهودية «ريتا»، من وضعوا بين عيون الشاعر العربي وقصيدته الغامضة لفترة طويلة من الزمن بندقية، أجبرته على ترك المكان؛ ليكتب نهاية حب مستحيل في قصيدة «بين ريتا وعيوني بندقية»، ويبدأ رحلة «التيه» الطويلة بين مصر وبيروت والأردن وباريس، والعودة إلى رام الله، ظل المكان شبحًا يظهر في الإيقاعات الموسيقية للشعر «الدرويشي»، يطل برأسه من خلف نافذة الشاعر الغارق، في محاولة المواءمة بين الواقع السياسي والأحداث المفصلية، التي مر بها الشعب الفلسطيني، وبين الطموحات الأدبية التي تحمل شاعرنا في أكثر الليالي قصفًا ودموية في بيروت من ملجأ في الطابق الثاني تحت الصفر إلى أعلى برج «إيفيل» في باريس؛ ليخط ملحمة الصمود في المكان، المعطرة بأعلى مراحل الذروة الشعرية في «مديح الظل العالي»، ويكتب «بيروت قلعتنا وبيروت دمعتنا»، التي عبّرت بشكل لا يترك أي شك عن المكان المهزوم مرة أخرى، الذي طرح جدلية المكان الأول بعد قرار الإبحار في البحر المتوسط لطلائع الثوريين مجدفي قوارب العودة؛ إذ بقي المكان حاضرًا يجذب درويش إلى نقطة البداية، التي أكد أنها كانت فلسطين وستبقى فلسطين، الأكبر من فكرة الدولة المفصلة على مقاس خيار سياسي منفرد. كما عالج درويش بذكاء ممزوج بشاعرية كبيرة علاقة الإنسان بالمكان في العديد من كتاباته الشعرية، مؤكدًا على هذه العلاقة التكاملية؛ إذ إن الإنسان خارج مكانه الطبيعي لا يعدو سوى انعكاس لظل مكسور، والمكان دون أهله ليس إلا منفى للذكريات والأحاسيس المتجمدة، وهذا ما ظهر بجمالية عالية في قصيدة «لماذا تركت الحصان وحيدًا؟» عندما كتب «فالبيوت تموت إذا غاب سكانها!!»، كتعبير عميق عن هذه التكاملية في العلاقة.
إن جدلية المكان المعبّر عنها في سيرة حياة (درويش وسعيد)، أحد أهم أعلام الثقافة الفلسطينية والعربية، ليست إلا اختزالاً لما يعيشه الشعب الفلسطيني ككل في علاقته بالمكان؛ إذ تستمر هذه الجدلية مع استمرار انتزاع قطار التطور الفلسطيني عن سكته الطبيعية؛ فالمكان الفلسطيني بالنسبة للفلسطينيين هو الأساس في حرب الثبات الحضاري والتراثي والتاريخي، والهوية الوطنية، ولا يمكن حل هذه المعادلة إلا بتفكيك عناصرها وإعادة توضيبهم بالخصائص الفلسطينية؛ لتشكل الهوية الجماعية على الأرض الواحدة مركز الانطلاق ومركز العودة؛ فالفلسطينيون خارج المكان كأسراب الطيور المهاجرة، التي تصنع لنفسها مواسم للتكاثر والتكامل إلا أن مسارها الأخير ينتهي من نقطة البداية في أعشاشها الأولى.
** **
- عضو اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين