تركي بن رشود الشثري
التوازن مطلب حياتي ملح كيف لا وهو الإكسير الناجع لحياة أكثر هدوءًا وعطاءًا وفاعلية، تأملت في هذا المطلب وهو التوازن فإذا به ليس فكرة أو ومضة لمعت في الذهن فيكتب عنها مقال أو يكتفى فيها بحلقة في برنامج بل هو قانون اتساق حياتي، فمن الجميل أن نُقلِّب الفكر في شتى المجالات للكشف عن معنى التوازن وأهميته ومجالاته، والبحث عن تطبيقات عملية ممكنة لتحقيق التوازن في عصر العولمة بين بعض المتفرقات، فبالفعل نحن بحاجة للتوازن في هذا العصر المعقد، من أجل عيش أكثر توافقاً وهناءة بال وقوة رحيمة.
التوازن هو إعطاء كل ذي حق حقه والالتفات للتكامل في الحياة بين العقل والجسم والدين والدنيا وهو معنى حضاري تستقيم معه أحوال الناس ويَنعمون فيه بسكنى منطقة نفسية هانئة إذ لا يمكن بحال أن تستقر المجتمعات التي تشقى بشيء من الغلو في جانب على حساب جوانب وكذلك الحال بالنسبة للأفراد، فخير ما تقدمه لنفسك ولغيرك وقاية وعلاجاً هو تحقيق التوازن خصوصاً في الأوساط المضطربة ولذلك عنونت لبرنامجي في التلفزيون السعودي الذي يتعلق بهذا الموضوع بـ «التوازن والعولمة» تحدثت فيه من خلال ما يقرب من الثلاثين حلقة عن التوازن في مجالات حياتية شتى تطال فعل الإنسان وفكره في مفاصل حياته الهامة وهو يعايش هذا الظرف التاريخي الشامل «العولمة» وبالفعل فعصرنا يشتد فيه الإلحاح لتحقيق التوازن لعدة أسباب منها:
1 - إنه عصر السرعة، والذي في عجلة من أمره بشكل دائم ولا بد من أنه سيفرط في صحته أو لياقته لحساب نجاحه العملي أو العلمي، وقد يفرط في جانبه الفكري لحساب تحسين جودة منتجاته وعليه قس، ومن الأسباب أيضاً أنه عصر الاستهلاك والاستهلاك يعني الإيغال في المادة ولا يكون ذلك إلا على حساب الروح فالاستهلاك بنية أساسية في ظاهرة العولمة.
2 - ومن الأسباب الانفتاح وسهولة التواصل مما يجعل القيم والعادات على محك المقارنة والتمحيص مع الوافد الجديد فيحتاج الشباب خاصة للتوازن بين هذا وذاك.
3 - ومن الأسباب أيضاً أن الضغوط في الزمن الماضي كانت تمتصها الأرض، بمعنى أن الفلاح يضرب بمسحاته الأرض ويزرع ويبذر ويرى نتاج ذلك فيتخلص من كثير من الأسئلة الوجودية والضغوط النفسية، بينما في عصر السهولة وإنجاز المهمات من المنزل وفي الغرف المكيَّفة مع إيصال طلباته إليه بكل يسر وسهولة وسرعة مع أسباب كثيرة ضاغطة ولا سبيل للتفريغ عن كل هذا، مما يجعل الإنسان المعاصر في حالة من التوتر والقلق الدائمين وعليه فهو مطالب بالتوازن في حياته ليتخفف قدر الطاقة من هذه الضغوط.
إذاً الحاجة ملحة للتوازن خصوصاً في زمن العولمة، فكثير من الناس يسأل عن تنظيم وقته وعن تربية أبنائه وعن التنسيق بين المنزل والمكتب، وبين الدين والدنيا، وبين الفردي والجماعي، ومع ذلك وبعد برنامج التوازن والذي هو أي التوازن من أهم أسباب اجتماع القوة اكتشفت ضعف الإنسان فإنه ومهما توازن فلا ينفك عن الضعف {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} وعن الخطأ ((كل ابن آدم خطاء....)) والعجلة {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} فما هو الحل؟
الحل هو المزيد من التوازن بحيث نتوازن في طرح فكرة التوازن بأن نضع هامشاً لاستيعاب «ضعف الإنسان-خطأ الإنسان-عجلة الإنسان».
فلا يحكم الإنسان على نفسه بالفشل وهو لم يسع بعد في تحقيق القدر الملائم لحاله من التوازن وفي الوقت نفسه لا يعتقد أن تحقيق التوازن معناه الكمال ووضع اللبنة الأخيرة في بناية نجاحه الحياتي فلا بد من مواصلة العمل وبذل الجهد واكتساب الخبرات والمعارف وتقبل «الضعف-الخطأ-العجلة» وكل ذلك مرهون بفهمنا الأصيل لمطلب التوازن، وأنه قانون وليس فكرة عارضة فقد بنى الله هذا الكون متوازناً وخلق الإنسان كذلك، فمركبات الجسم هي الماء والسكريات والبروتينات والفيتامينات والفسفور والحديد وغيرها كلها بمقدار وكلها موجودة في الأرض وفي الحيوان والنبات بنسب تضمن البقاء لتؤدي هذه الحيوات وظائفها باتساق، ثم إذا نظرت إلى الفلك رأيت الدقة والنظام في هذه المجرات الضخام فلا تصادم ولا اختلاف في المواسم، ولا تخلف لفصل من الفصول، الشمس لها وظيفة، والقمر له وظيفة، والنجوم لها وظيفة، والأرض لها وظيفة، وكل في فلك يسبحون، وعليه فنحن ننزل هذا التوازن على سلوك الإنسان وفكره ونربطه بقانون الكون العام ألا وهو التوازن، فالتوازن هو الضامن الوحيد للاستقرار الوجودي والعقلي والنفسي، والخبرة المجتمعية للناس لا تجهل هذا بفطرتها ولكنها تتنكر له بتصرفاتها، فالمجتمع يمور بالصراعات السالبة والأفراد يصارعون أنفسهم صباح مساء بسبب الطغيان أو التعامل الجائر مع النفس، وصفوة القول إنه لا يمكن بحال أن يحقق المرء أهدافه المختلفة إلا بضبط حركته في الحياة وجعلها متناغمة مع هذا الكون الذي يسبح بحمد ربه، نعم نحن لا نفقه هذا التسبيح ولكننا على يقين من أنه يسبح وعلى يقين من أن توحيد الهم ليكون هماً واحداً وهو هم رضى الله وتوحيد الإرادة وهي إرادة وجهه الكريم هو المصل الواقي من جوائح الاهتزاز النفسي والاغتراب الروحي والشعور بالفشل الذي يمد أذرعته كالأخطبوط من الغرب البارد القلق للشرق الدافئ المطمئن الذي لم يعد مطمئناً ولم يعد دافئاً بالدرجة الكافية فهل نحن بحاجة للتوازن؟
بعد كل هذا لا يسعنا إلا أن نقول: من فقد التوازن فقد الحياة لماذا؟
لأن الحياة بنيت في مادياتها ومعنوياتها على التوازن، فالذي لا يتوازن بين عقله وعاطفته بين جسمه وروحه بين عقله وقلبه سيخرج من ميدان الحياة الفسيح المترابط بدقة وشمول إلى الضياع القيمي والبخس النفسي والتوتر العقلي وهي مظاهر فاشية اليوم وساعد على انتشارها سهولة الاتصال واشتهار أهل السفه والتماجن الممجوج.