د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
لم يكن السؤال يومًا، ولن يكون، خطًّا مستقيمًا، بل هو دوائر متعرجة لا تُعرف نقطةُ ابتدائها، ولا وجودَ لفاصلة انتهائها. وإرهاقُ العقل بحلِّ تداخلاتها سيخلق دوائر ودوارًا، وستبدو معه علاماتُ التعاظم والتعالم لدى من يظنون أنهم قادرون على تقديم إجابةٍ عن كل استفهام. ومن مُخرجات هذا السلوك الذهني التيهُ في أمواج لُجيةٍ معتمة، تغشى بعضَ قارئي الفلسفة المؤمنين باحتوائها إجاباتٍ لكل معضلة. والناتج أن فيهم من لا يواصلون الإبحار كما لا يعودون إلى البراري.
** لا إجابة قاطعةً لأي قضيةٍ إلا بالإيمان المطلق بمرجعيتها، سواء أكانت مقدسةً نقلًا أو متَّبعةً عقلًا. ومتى بلغ المرءُ درجة اليقين فإنه لا يعود عنها إلا بيقينٍ آخرَ تلزمه دورةُ عقلٍ كاملةٌ، تنقله من موقفٍ إلى نقيضه. والمشكلة هنا هي أن الطريق بين اليقينين سيمرُّ بمتاهات الأسئلة وفرضيات الأجوبة، وربما تؤول بذويها إلى منطقة لا شاطئَ فيها ولا مغارة؛ فلا يدرون أين هم وإلام ينتمون.
** في هذا الدرب هناك من يحاولون استبدال الإنسانيات بالإلهيَّات؛ بمعنى إلباس النظريات الإنسانية مرجعيةً قدسية تضمن - في نظرهم - بلوغ منطقة اليقين. وهذه عملية عبثية مخادعة، تقنع أولئك الذين يودون إيجاد نهجٍ ينأى بهم عن الإيمان بالغيب بزعم أن العقل قادر على فك جميع الرموز وتفسير كل الظواهر، وهيهات.
** لا جدل أن الغيب يسكن شطرًا من حياتنا الدنيوية وجميعَ ما سنجده بعد رحيلنا. وفي حكاية طريفة يتداولها الناس أن أحدهم - وهو معروف في نطاق مدينته - ذهب إلى كاهنٍ خارج الوطن ليسأله عن أمور تخص ثروةً افتقدها بعد وفاة والده فقال له: أستطيع تحضير روح والدك، فأجابه: لو استطعتَ هذا فلن أسأله عن الثروة المفقودة، بل عن وضعه في الحياة البرزخية، وبالتأكيد لم ولن..
** لعل هذا هو السؤال الغيبيُّ الأهم الذي وقفت دونه نظريات الفلسفة، وأعيت إجابتُه الفلاسفة، ومن يدّعي فهم حياةٍ قصيرة ولو طالت، ويعجز عن فك رموز حياةٍ ستدوم، فلا قيمة لنظرياته. وقد يرتاح مؤقتًا من بلغوا درجة اليقين الآخر المضاد للإيمان، وبالأخص من يعتنقون العدمية التي جاؤوا منها وسينتهون بها. وهنا إشارة مهمة في قضية اليقينين؛ حيث يسكن القلب في أحدهما ويرتاح العقل، ويقلق العقل في الآخَر ويتوهم أنه في طريق البحث عن المصير. وربما كان من الأجمل لهما (القلب والعقل) أن يُؤمنا بمحدودية إمكاناتهما، ودونية مكانَيهما، وسيبقى قلب «الإلهيَّات إلى الإنسانيات» - كما نادى بعضهم - هاجس فيلسوفٍ أو فلسفة هاجس، ولو أغنت الهواجس لفرّت الأسئلة.
** الإيغالُ في أي توجهٍ لا يمنح الذهن مدىً ليفكر ويُقدّر ويُقرر، وحين تضيق المساحة أمامه فإنه يتبلد، ويصبح تابعًا؛ يردد المردد، وسيفوتُه أن للشمس مشارق، ومن فاته ضوء فلن يسعَه فيء.
** العقول تختلق ونحن نفترق.