عبدالمجيد بن محمد العُمري
أحببتُه في الله دون أن أراه، لمَّا سمعتُ خيراً عن أخباره ومزاياه، فالجميع يذكره بالخير مشايخه وأساتذته وزملاء الدراسة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وفي بلاده نيجيريا.
الكل يثني على همّته العالية وخلقه الحسن، كيف لا وقد حفظ القرآن الكريم، وكتبه بإتقان عن ظهر قلب، وهو دون العشرين من عمره، فحفظ الله قلبه وجوارحه فصار لا ينطق إلا خيراً ولا يفعل إلا خيراً، وقد احتل مكانة بارزة في أوساط الدعاة وطلاب العلم في بلاده؛ لما كان يبذله من وقت وجهد ومال في خدمة الدعوة إلى الله وقضاء حوائج الناس.. ذلكم هو الداعية والمحامي الحافظ الشيخ موسى آدم علي -رحمه الله- الذي توفي منذ أيام.
ولد الشيخ موسى -رحمه الله- في قرية (مالوري) شمال نيجيريا، ثم انتقل إلى أبوجا عند عمه، ثم درس في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، تخرج من كلية الشريعة، ثم التحق بالماجستير في القضاء، وهو طالب دكتوراه في القضاء بجامعة المدينة العالمية بماليزيا -عن بُعد- وكان أيضاً طالب محاماة بجامعة أحمد بلو بنيجيريا.
حصل في جميع مراحل دراسته التي أعرفها على الامتياز، وفي مرحلة كلية الشريعة حصل على 4.99 من 5، وهو إمام مسجد ابن باز، بأبوجا، الذي بناه أحد التجار من أصدقائه وهو الحاج عمر موسى.
أنشأ مدارس في العاصمة أبوجا، وكان يتابع إدارتها عن بُعد، حين كان في المدينة، ولما رجع واصل الجهود فيها كلّها بصدق العزيمة، كما أنشأ مدرسة أخرى في بلده الأصلي (مالوري) بمحافظة (فِيكَا)، ولاية (يوبي)،كما أخذ بعض أبناء البلد فبعثهم إلى بلدة حطيجيا لحفظ القرآن وتعلُّم الدراسات الإسلامية ليكونوا مدرسين في تلك المدرسة الجديدة، وكان يَصرف على المدرسين أهل البلد بطريقة تكافلية متقنة، نظمها هو بحنكة -رحمه الله-.
أنشأ أكثر من 5 مدارس من الصفر إلى الرسوخ، وأعان على تأسيس أخرى كثيرة، ولم يكن يحب أن يكون ومن معه عالة على أحد فأحيانا يزرعون، فيُصرف ريع الزراعة على المدرسين والطلاب، وأحياناً بجمع التبرعات من دون طلب أو إلحاح وكان يحظى بثقة أهل البلد، ومن التزم بذلك فإنه يتابعه الشيخ موسى ليدفع حصته.
كان تاجراً حصيفاً؛ له شركة تجارية، وكان يساعد المقبلين على التجارة على جمع رأس المال، والانطلاق في التجارة، مع مراعاة التدرج في مزاولتها. عُرف عنه وشُهد له عنايتُه بتعليم كتابِ الله الكريم وعلومِه علماً وعملاً وبذلاً وعطاءً لا حدود له طوال مسيرته المباركة، ولقد تحققت أحلامه، ونفَذت خطته في تعليمه، وتخرج من مدارسه خلق كثير من البنين والبنات ومن المعلمين والمعلمات الذين انتشروا في قراهم لتعليم كتاب الله الكريم ولتحقيق البشارة المحمدية (خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه).
وحتى في ظل الجائحة العالمية لكورونا، جمَع أبناء حيِّهم يدرسهم حين بقي التلاميذ في البيوت من أجل الأوضاع الراهنة، وكان الأخ موسى باحثاً، همُّه إحياء السنة ومقاومة البدعة بالحكمة والموعظة الحسنة، وكان شغوفاً بالتأليف والتدريس خاصة في القضاء والسياسة الشرعية والترجمة، وكان مجيداً للغة الإنجليزية ومهتماً بها، وكان يترجم ملخصات بحوث زملائه إلى اللغة الانجليزية من دون مقابل، وكان يقول لأصحابه: أريد أن أفهم ما عندهم ويفهمون ما عندنا حتى تبلغهم الحجة ويفهمون ما عندنا، لعل أن يكون بينهم أحد من المنْصِفين فيهديه الله أو يكف أذاه عن الإسلام والمسلمين، وكان له دروسٌ قائمة؛ في فقه المعاملات؛ فأهل المنطقة أغلبهم تجار، كما له دروس في أحكام العبادات وغيرها، وللفقيد عناية بالطلاب النيجيريين الذين يدرسون خارج نيجيريا منذ أن كان طالباً في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة فرَأَسَ الطلابَ رغم وجود من هم أكبر منه في المرحلة، وكان خير معين لهم، وحينما عاد إلى بلاده شجع الناشئة والشباب على الالتحاق بالمنح الدراسية وخاصة في المملكة العربية السعودية.
وحينما يريد أبناء القرى والمدن البعيدة السفر أو القدوم كان يستقبلهم في المطار ويستضيفهم في منزله ويُعنى بهم.. يقول الشيخ حمزة علي إبراهيم طالب في مرحلة الدكتوراه بالجامعة : لما سافر أهلي قبل 5 أشهر هو الذي استقبلهم من المطار في العاصمة أبوجا. فكان نعم المضيف الخادم، ثم لما نزلتُ بعدهم بأيام استقبلني، وبتُّ عنده. فصنع لي فيما يخصني كما صنع لهم من حفاوة الاستقبال ورقة الابتسامة.
ويقول د. فواز آل قاسم اليمني: زاملته في مرحلة الماجستير وكان مشرفنا واحدًا، تحدثت معه كثيراً فما رأيت منه إلا طالب علم ذا خلق وحِلم، صاحب همة عالية واجتهاد ومثابرة، الابتسامة لا تفارقه والتواضع يرافقه.
وهو من أفضل الزملاء الذين عرفناهم، كان متواضعاً، كثير السكوت قليل الكلام، رجل مخطط لمستقبله ويسعى دوماً لتحقيق ما رسم من الأهداف والخطط. كنت ألتقي به كل يوم اثنين في لقائنا الأسبوعي لدى شيخنا الفاضل الدكتور سلمان السهلي - حفظه الله - المشرف علينا جميعا في مرحلة الماجستير، فكنت أسمع شيخنا دائما يثني عليه في بحثه وأسلوبه وطريقته في البحث، وجمع المادة العلمية، وترتيبها وسبرها وتقسيمها، وكنا نرجع غالبا في سيارة واحدة ونتساءل في الطريق عن بعض الأمور فكان غالبا ما يتحدث عن بلده والدعوة فيه وبناء الأجيال وحفظة القرآن والتعليم، فكان همه دعوة وعلم وصلاح للمجتمع، فرحمه الله ما تعاقب الليل والنهار.
ولقد سألته ذات يوم لماذا لا تقدم معنا في مرحلة الدكتوراه فقال: أنا لا أترك الدراسة! وما أزال أدرس، ولكن الآن أرى أني أستطيع أن أواصل دراستي في بلدي أو أي بلد آخر عن بعد، وبالمقابل أتفرغ في بلدي للدعوة والتعليم فأجمع بين الحسنيين.
لقد توفي يوم الجمعة! وما أدراك ما يوم الجمعة! ذلك في حدود الساعة الخامسة مساء، يوم 30 - 6 - 1442هـ الموافق 12 - 2 - 2021م.. خلف رحمه الله 5 من الأولاد. أكبرهم محيسن ثم أنور.
توفي وهو بأتم صحة وأفضل نشاط خلال عودته من الجامعة على أمل العودة، حيث يدرس المحاماة، ليحميَ بتخصصه جناب التوحيد والدين، وتوفي إثر حادث مروري، وتوفي معه اثنان في السيارة، وكان يؤمل بعد عودته إنجاز أعماله ومهامه التي تخدم دينه ومجتمعه، وقد ارتسمت في ذهنه مجموعة من الأعمال والمهام التي يريد إنجازها ولكن قضاء الله - عز وجل - كان أسبق فلكلِّ أجلٍ كتاب.
إن وفاة الأخ موسى خسارة للدعوة وللعلم ووقعها أليم في نفوس زملائه وإخوانه وذويه، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا -عز وجل- إنا لله و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، وأحسن الله عزاء المسلمين في نيجيريا في فقيدهم، وتولاه برضوانه ورحمته!
بكتك عيونٌ روَّعتها مصيبةٌ
وريعت قلوبٌ أثقلتها نوازلُ
ستذكرك الأيام رغم فراقكم
وتعلو بكم في الخالدين منازلُ
ومن صلحت أيامهُ كان ذكرهُ
حميداً وعند الله ترجى الفضائل