عبدالوهاب الفايز
ثمة قناعة لمراقبي سلوك الدول الكبرى الغربية تتجدد. هذه الدول عندما تتبنى قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية ليس حباً للشعوب، بل لتكون أداة ضغط لتمرير مصالحها وخدمة توجهاتها الاستراتيجية، وتستند إلى سياسة (العصا أو الجزرة). هذه تعمل بها أمريكا منذ عقود مضت لإدارة الصراع وتحقيق المصالح في الشرق الأوسط، وأهم المصالح تدفق النفط وإخراج ثروات المنطقة حتى توفر (التمويل الرخيص) لأسواق المال في أوروبا وأمريكا، وهذا يحققه إخضاع المنطقة إلى حالة عدم الاستقرار عبر استخدام الأدوات الناعمة للاحتواء والهيمنة، أو عبر (التهديد والتدخل العسكري) إذا تطلب الأمر!
الآن بايدن يطبق هذه السياسة بأدوات ومبادئ الحزب الديمقراطي، ويستخدم نفس سياسات حزبه السابقة، ويعود لاستخدام الورقة الإيرانية، وحقوق الإنسان لإدارة الصراع. أمريكا لا تحتاج نفط المنطقة، كما هو حال العملاقين الاقتصاديين القادمين، الصين والهند. أمريكا بحاجة لأدوات مؤثرة في الشأن الدولي مثل التحكم بممرات النفط والتجارة، وتعزيز حضورها في إدارة النظام المالي والبنكي العالمي، وخدمة شركاتها ومستثمريها الكبار المتطلعين لحصتهم من برامج ومشاريع التخصص في المنطقة مما يعطيهم الحق النظامي للتدخل في القرارات الاقتصادية السيادية للدول.
التطبيقات العملية لهذه السياسة لم تتأخر، فالإدارة تعد لعقد ملتقى عالمي للترويج للديمقراطية ولحقوق الإنسان، وفي الشرق الأوسط بدأت التحركات المريبة التي تعطينا الحق لأن نفهمها كعودة لإطلاق جولة جديدة لـ(الربيع العربي). لماذا الخوف؟ حملة أمريكا المقدسة لتعزيز الديمقراطية رأت الشعوب العربية والإسلامية نتائجها المدمرة في الحرب على أفغانستان، وفي احتلال العراق وتسليمه لإيران، فالمساعي المتعجلة غير المحسوبة لبناء الديمقراطية أوجدت بلدين محطمين، وبدون مؤسسات سيادية فاعلة، وحرب أهلية مستمرة، وحرب أمريكا المقدسة امتدت ارتداداتها المدمرة إلى كل الشرق الأوسط.
هذه الشعوب المهددة في أمنها ووجودها، هل يظن (اللبراليون الجدد) من صقور الإدارة الأمريكية أنها راغبة أو قابلة لأن تتلقى (الدروس والمحاضرات) عن الديمقراطية من المسؤولين الأمريكان أو من دكاكين المجتمع المدني الأمريكية والأوروبية، خصوصًا بهد مشاهدة الانتهاكات للحقوق الديمقراطية في أمريكا، وبعد موقف جزء رئيسي من الشعب الأمريكي المشكك في نتائج الانتخابات، بل يقتحم الكونجرس لكي يصلح الفساد السياسي. نقول لهؤلاء: فضلا، قليلا من التواضع والواقعية!
الغايات النهائية للديمقراطية وحقوق الإنسان تصل إليها الشعوب بالطرق التي تراها مناسبة ومحققة لتطلعاتها. بناء الديمقراطية عمل مؤسسي مستدام يتطلب الاستماع للناس وصناعة الإجماع وتحقيق التوازنات بين القوى المؤثرة في المجتمع، ولا يتحقق بالأماني والتطلعات. أمريكا وأوروبا رغم مرور سنوات طويلة على بناء الديمقراطية وتكريس ممارسات حقوق الإنسان ومحاربة الفساد، تواجه الآن مطالبات محلية لإصلاح نظامها السياسي وتحريره من نفوذ المال وتغول الشركات الكبرى. ما يقارب من 80 بالمئة من الشعب الأمريكي يرون أن الشركات الكبر تمارس نفوذًا كبيرًا على السياسيين، والآن: في البيت الأبيض أقوى حليف للمؤسسة المالية العميقة في الـ(وول ستريت)!
بالنسبة لنا هنا في المملكة.. ظلت حقوق الإنسان وبناء أسس الحكم الصالح الذي ينطلق من احتياجات الناس ومن عقيدتها وأخلاقياتها وأولوياتها هو الهم الأكبر الذي تبناه الملك عبدالعزيز، يرحمه الله، منذ أن وضعت حروب الوحدة أوزارها. لقد تحول من قيادة الجيوش إلى قيادة جهود الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي، وكان يتطلع إلى أية فكرة أو حتى رأي ناقد للأوضاع سواء من الداخل أو الخارج. ومبادئه في الحكم وبناء الدولة ظلت هي المرشد لأبنائه من بعده، فقد استفادوا كثيرًا من جميع الآراء والأفكار الناقدة للأوضاع، وفي بدايات تكون الدولة وبناء مؤسساتها كانت الآراء والتقارير الناقدة تستخدم كـ(استشارة مجانية) للتطوير وإصلاح الأخطاء. الآن نحتاج هذه الذهنية الايجابية لإدراك واستيعاب غايات (الحرب الإعلامية الليبرالية القادمة) على بلادنا وقياداتها عندما تثار قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والبيئة وحقوق العمال والحريات بشكل عام.
هذه القضايا، بالنسبة لأمريكا، أداة فعالة في إدارة النظام الدولي المعاصر الذي وضعت أسسه بعد الحرب العالمية الثانية وتبنت الدفاع عنه خدمة لمصالحها الداخلية. تثير قضايا حقوق الإنسان مع الصين لأن الهدف هو تحريك وهز الجبهة الداخلية لأجل الحد وإيقاف تقدم الصين. فأمريكا تريد الصين متأرجحة بين القوة والضعف، فالصين القوية تهدد مصالحها. المطلوب (صين ضعيفة سياسيا) حتى تظل ورشة عمل لإمداد الشركات الأمريكية والغربية بمدخلات الإنتاج الصناعي الرخيص.
وهذا هو المطلوب في الشرق الأوسط: استمرار حالة عدم الاستقرار، وليس هناك أفضل من التلاعب بقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية لإرباك المنطقة!
في محيطنا العربي، ماذا قدمت الديمقراطية لمن سمحوا للأحزاب والتيارات السياسية والدينية بالنمو والتجذر في بنية الدولة؟ لقد تعطلت لديهم التنمية وتعطلت مصالح الناس، وبلادهم دُمرت أو هي في مهب الريح!