د.فوزية أبو خالد
أعتقد دون أن أجزم أو أعمم أن منسوب تناول كُتَّاب الرأي القضايا العامة، وعلى وجه التحديد الهموم اليومية التي تشغل المواطن قد انخفض في الآونة الأخيرة تدريجياً، حتى كاد أن يخفت إن لم يخمد الصوت المعبِّر عنها في صحفنا المحلية التي كانت عبر تاريخ طويل هي المنصة والمنبر لإلقاء الضوء على تلك الهموم والمشاغل، ولتقديم عينة متنوعة من الاجتهادات في حلِّها أو تقديم مقترحات لمعالجتها.
وقد كانت تلك الكِتابات تُعد في عُرف المجتمع وفي عرف أصحابها مَعبَراً معترفاً به؛ لإيصال هذا الشأن أو ذاك من شئون وشجون المواطنين إلى صاحب القرار الأعلى، أو أصحاب القرار في الوزارات والمؤسسات الحكومية أو الأهلية ومَن في حكمهم ، رغم تراوح السجال حينها بين الكاتب والرقباء أو ما كان يسمى «بحس مرح» (أصحاب القلم وأصحاب المقص). ورغم محافظة الواقع الشديدة وقتها سياسياً واجتماعياً وقيمياً، وميله للتشدد نحو الكثير من الأمور بما كان يجعل من سقف الصحافة عرضة دائمة وجبهة عاصفة للشد والجذب والمد والجزر، إلا أن ذلك لشاهد العيان لم يؤدِّ قط إلى التفريط في شعرة معاوية.
وهنا تثور الأسئلة ويخطر على البال عدة أسباب لما نراه اليوم من تفريط كُتَّاب الرأي في دورهم التاريخي، وفي مسؤوليتهم الجسيمة تجاه التعبير عن صوت المواطن كما كان الأمر وكما عهدنا منهم من قبل دون عهد إلا عهد أمانة الكلمة الغليظ، رغم المحاذير سابقاً والمد والجزر المشار إليه أعلاه.
لا أنحو بحكم مرجعيتي كمتخصصة في علم الاجتماع إلى تحميل طرف واحد ولا عامل واحد مسؤولية أي حدث أو فعل أياً كان، وبخاصة ما يتعلق بالمواقف والتحولات وحرية التعبير والحقوق العامة واتجاهات التفكير والسلوك، سواء كان فردياً أو جمعياً، كما أنني أنأى برأيي عن تلك الآراء الأحادية التي تنحو باللائمة في تفسير كل شاردة وواردة تخص الواقع الاجتماعي، إما على المجتمع وحده أو على فئة معينة منه أو على السلطات، مثلما شاعت مقولات برنارد شو الساخرة اسأل «عن المرأة، اقبض على الشرطة، حاكم الحكومة، اعفِ الشعب من المسؤوليات وعامله كصبي قاصر لم يبلغ عمر التكليف بعد.. إلى آخره من تلك المقولات».. ولذا لا بد أن نسأل أو لا بد على الأقل من محاولة طرح الأسئلة أو البحث في تعدد الأسباب وتنوع العوامل:
- هل يعود امتناع أو انشغال وتشاغُل الكُتَّاب عن الكتابة الناطقة بجنان المواطن؛ لأن القيادة الوطنية اليوم تنحو إلى حل الكثير مما كان يعد مطالب (اجتماعية) ملحِّة قبل أقل من نصف عقد من الزمان؟
- هل يعود الأمر إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي قد أتاحت مفاتيح الكلام لكل مواطن، وحوَّلت الحرية من محاذير جمعية إلى محاذير فردية غاية في الفردانية بكل ضراوتها، حيث إنه ليس لكل فرد إلا أن يكون الناطق الرسمي الوحيد باسمه شخصياً الحقيقي أو الوهمي؟
- هل يعود أمر انسحاب الكُتَّاب من تناول القضايا المجتمعية الملموس للمتابع؟، وإن كان الأمر يحتاج إلى فحص إحصائي، إلى ما يمكن أن يسمى «وداع جماعي» للدور التاريخي الذي لعبته الصحافة المحلية الورقية عندنا على وجه التحديد وفي العالم بأشكال أخرى مختلفة، وقد كانت الصحافة تضطلع تاريخياً بمجتمعنا بمسؤولية جسيمة وبدور يتراوح في الفعالية، ولكنه دائماً موجود كمنصة ليس فقط لنقل الأخبار أو كمنبر إخباري، ولكن كجسر بين المجتمع وبين الدولة والعكس صحيح ، بما جعل من زوايا الكُتَّاب والكاتبات وأعمدة الرأي في صحافتنا «حالة برلمانية» لنبض الشارع وما يعتمل في الصدور من أحاسيس وما يدور في العقول من أفكار.
هذه أسئلة تحتاج برأيي إلى قراءة موضوعية من قِبَل أهل الرأي ومن قبل الأكاديميين على الأخص، وبمشاركة عينات واسعة من كافة مكونات المجتمع والشارع السعودي على تآلفها واختلافاتها (الجغرافية والتعليمية والثقافية). وهذا الكلام لا أقوله في معرض الحديث عن الصحافة ورقية أو إلكترونية، ولا في وارد السجال الدائر حول الموضوع، بل أقوله في أهمية البحث عن غياب الرأي العام تحديداً في الصحافة المحلية، بحكم دورها التاريخي الحيوي في هذا المجال، وتوجد بمعرفتي وإشرافي على بعضها عدة دراسات معمقة بقسم الدراسات الاجتماعية بجامعة الملك سعود توثق تحليلياً الدور المتبادل بين الصحافة السعودية وبين كِتابات الرأي. على أني هنا أكتفي بطرح سؤال محدد: أين ذهبت كِتابات الرأي في الشأن العام وفي التعبير عن الشجن والعشق الوطني؟
ولعل في إعادة الوهج إلى الصحافة المحلية يعيد لها دورها بعودة كُتَّابها وكاتباتها الذي يتطلع إليه الملك وولي العهد ويجب أن تضطلع به.
إلى الأسبوع القادم وسؤال: «التعليم عن بُعد في المراحل الابتدائية الأولى إلى أين؟»، «العد التنازلي لرواتب التقاعد إلى أين؟»، «الرواتب الفلكية لبعض الوظائف التنفيذية والأعمال الإعلانية إلى أين؟»، «بطالة خريجي الدراسات العليا في مجالات العلوم الطبيعي إلى متى؟».