د. حسن بن فهد الهويمل
رتابة الحياة, ونمطيتُها مُمِلتان, والإنسان مرتهن لكبدها, ونكدها, ومفاجآت نقمها. إنها عدو متمكن من الرِّقاب, يراك من حيث لا تراه, سهامها سامة, وهي كالشيطان. تأتيك من كل الجهات, تحتنك, وتضل, وتخوِّف: الصغار, والكبار, الأقوياء, والضعفاء. كل من على أديمها في عناء, وعنت, لا استثناء من كبدها, ومكابدتها.
أخطر شيء في مصمياتها فراغ اليد, وفراغ الوقت. الإنسان في هذه الحالة في وبال, إنه من سقط المتاع, الذي لا يؤبه به.
غرائبيات الحياة أنك كلما اتسعت فيها مهماتك اتسع وقتك, وأصبحتَ بحاجة إلى من يسليك, ويملأ فراغك. يا لها من معادلات صارخة التناقض.
الملوك, وكبار الأثرياء, والزعماء يتألفون الجلساء, ويغدقون عليهم الأعطيات؛ ليملؤوا فراغهم, ويذهبوا حزنهم.
لقد صَحِبتُ بعض هذا الصنف الاستثنائي بإمكانياته: المادية, والمعنوية, وعايشته في الحِلِّ, والمرتحل, وأدركت كم تحلو لهم الجلسات بمن يَمْتَلِئون علماً, وتجربة: كالرواة, والقصاصين, والحفظة.
(مجالس الخلفاء) في القديم خلَّفت لنا أدبيات لا يستهان بها, ومن بعدهم قامت الصالونات, والمجالس المفتوحة.
وأنا ممن اتخذ مجلساً يفد إليه الأصدقاء, والزملاء, وحين يَقِلّون أحس بالملل, والضيق.
الإنسان اجتماعي بطبعه, يصبر على مصاعب الحياة, ولكنه لا يحتمل العزلة. يسعى بنفسه بحثاً عن الجلساء, والمشابهين:- (إنَّ الطيور على أشباهها تقع). (قل لي من تصاحب أقل لك من أنت).
طلبُ الجلساء, والانغماسُ في الكتب، هروبٌ من عنت الحياة, وجورها.
(المأمون) الخليفة المملوء بالعلم والعمل أشار إلى أهمية مجالسة الرجال, وقال: «شبعنا من متع الحياة, ولم نشبع من مجالسة الرجال» أو كما قال عفا الله عنا وعنه. لم تشغله تبعات الملك, ولم تصد عنه عنت الحياة؛ ففر إلى الجليس, والكتاب. وكلنا ذلك الرجل, ولكننا نجهل الحادي إلى تلك المسكنات.
الأشقاء يتباعدون, ومع أشباههم يتقاربون, والجَمْعُ تمزقه الرغبات. ميول الإنسان يحدد مساره, وينتقي أصحابه.
قد تتدخل الخلفيات الثقافية؛ فتعدل من رغبات الإنسان, ولكنها لا تلغيها. تَفْعلُ القراءةُ ما لا يفعله أي مكتسب آخر.
(الشافعي) و(ابن القيم) أديبان بطبعهما, ولكن كتب العلم, والفقه, والفقهاء صرفوهما عن الأدب شيئًا قليلاً. لقد ظلت مسحة الأدب باديةً فيما خلفاه من كتب حتى رُوي عن الشافعي:-
(ولولا الشِّعر بالعلماءِ يُزْري
لكنتُ اليوم أشعر من لبيد)
الكتاب يصنع النوازع, والميول, والرغبات, ولكنه يبقي نوازع النفس.
مُعْجزة الإسلام (كتابٌ) يُقرأ, ويُعَلِّم, ويُرَبِّي, ويُنَقِّي.
عجبي؛ لو أن هذه الأمة ليس بين يديها كتاب.
- كيف تكون في ظل هذا التدفق المعرفي؟
إنه الخيط الذي يعود بقاربك كلما شطت به الأمواج؛ ولهذا صار حجة لك, أو عليك.
لقد كابد الإنسان, وغالب أمواج الحياة, وبقدرة قوة سفينته تكون قوته, وثباته, وتحديه.
لعبت الأمواج بالقوارب, كسرت المجاديف, ومزقت الأشرعة, وما استطاع شياطين الإنس والجن أن يَعْدِلوا بالمسلمين عن مسارهم التعبدي.
وتبقى الحياة تمارس عنتها مع كل الناس, على مختلف مستوياتهم, واتجاهاتهم.
لو بلغت الجبال طولاً, وخرقت الأرض قوة, فلن تتغلب على عنتها, وجورها.
فَرَوِّضْ نفسك, واعرف قدرها, وقدرتها.
وتبقى الحياة مع ما هي عليه عشيقة الجهلة, والشهوانيين, والمغفلين:- {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَد}.