د. عيد بن مسعود الجهني
الطمع والجشع من أبشع الصفات التي يتصف بها الإنسان، وكل فرد إذا تعامل بجشع وطمع فإن الحياة تصبح عنده غاية لا يهتم إلا بتحقيق غايته حتى ولو كانت محرمة، وبذا فإنها عكس الرضا والقناعة.
وفي الحياة العامة من النادر أن تجد من يتسلح بالجشع والطمع يعيش سعيداً في حياته، هذا لأن صاحب الجشع والطمع على الدوام يبحث عن المزيد.
ومنذ القدم فإن هذه الصفات الخبيثة موجودة في النفس البشرية قال تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} (23) سورة ص، وهذا عين الظلم والجشع والطمع والحقد والحسد.
وما الفساد إلا ظلم بواح وطمع في ملك الغير، المال العام، الذي أوكل إلى الفاسد حراسته والحرص عليه على سبيل الأمانة قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (72) سورة الأحزاب.
إذاً الفساد الإداري والمالي ما هو إلا سرقة أموال الدولة التي تنص الأنظمة والقوانين واللوائح على حمايتها، كما تقضي بتطبيقها على الفاسدين الذين يتجاوزون حدود صلاحية وظائفهم واستغلالها لتحقيق مصلحة أو منفعة شخصية أو لأحد أقاربه أو غيرهم بقصد الإضرار بالمصلحة العامة.
والمتتبع لقضايا الفساد يخرج بنتيجة مؤداها أن المنصب بصلاحياته الإدارية والمالية الواسعة والبيروقراطية العفنة يمنح صاحبه السيطرة على الأنشطة ومقدرات القطاع العام ويتصرف بأمواله فساد أو رشوة ومحسوبية من خلال ترسية المناقصات مثلاً على من لا يستحقونها وليسوا مؤهلين بمنحهم العقود والصفقات والامتيازات العديدة، وهذه الصلاحيات تغري صاحب المنصب بالفساد خصوصاً مع قصور نظام المحاسبة والرقابة السابقة واللاحقة على المصروفات الحكومية.
والفساد والرشوة والمحسوبية تبدأ عندما يغلب بعض الأشخاص مصالحهم على مصالح الأمة، ولذا تحوّل الفساد إلى قضية تهدد مناحي الحياة كلها.
وما تقوم به هيئة الرقابة ومكافحة الفساد من جهود إنما تصب في هذا المنحى، تطبق القوانين والأنظمة واللوائح التي تنص في موادها بشكل صريح على حماية المال العام.
وفي بيانات الهيئة التي أعلنتها مؤخراً في إحداها باشرت (123) قضية فساد وهذا رقم فلكي شمل فاسدين في قطاعات متعددة بعضها في مقدمة مسؤولياته مكافحة الفساد فكيف يخرج من رحمه فسدة.
يتضح هذا عندما أعلنت الهيئة تمكنها إلغاء صك استحكام لأرض تبلغ مساحتها مساحة قرية كبيرة، فكيف صار لهؤلاء الظلمة قصدًا وإصرارًا إخفاء ما سرقوه من أموال الدولة التي هي أموال الشعب أيضاً.
ليس هذا فحسب فالحبل على الجرار كما يقولون فالهيئة تضرب بذراع من حديد على مرتكبي الفساد والرشوة والمحسوبية، ففي تصريح جديد لمسؤول فيها أكد القبض على (69) من الفاسدين مرتكبي جرم الرشوة، ومن المؤسف أن من بينهم شخصيات يجب أن يكونوا قدوة للآخرين، لكنهم أمام طمع الحصول على المال الحرام تحولوا إلى وحوش مفترسة، في معظم جهات القطاع العام.
هذا يبرز بوضوح أن فساد بعض الذين يستغلون نفوذهم الوظيفي يملكون سلطة واسعة في اتخاذ القرارات والتحايل على القوانين ولي أذرعتها تحقيقاً لمصالحهم الشخصية ويتحصلون على مبالغ مالية كبيرة لا يستحقونها كالذي استولى على نحو (400) مليون ريال مقابل ترسية مشاريع لصالح بعض الشركات.
ولا ينحصر الفساد في كبار المواطنين، فإن بعض صغارهم لهم دورهم في الفساد ويكون فسادهم على حساب المواطنين، ليصبحوا أغنياء ومن وجهاء المجتمع في فترات زمنية قصيرة، بعد أن أصبحوا (وحوشاً) مفترسة مخالبها الرشوة والاختلاس.
ولذا رأينا من بيانات الهيئة أن بعض الأنفس الدنيئة طلبت مبلغ (1400) ريال لتسهيل عملية واحدة تلو الأخرى ليبلغ إجمالي ما استولوا عليه (1.4) مليون ريال، وفي ميدان الاستغلال الوظيفي فإن أحد الفاسدين تمكن من بيع عقار له لجهة يعمل بها بمبلغ يزيد على (13) مليون ريال بينما قيمته الحقيقية أكثر قليلاً من (8) ملايين ريال.
ولا شك أن مجهودات الهيئة في مطاردة مرتكبي الفساد تؤكد عكس اعتقاد الفاسدين الذين يعتقدون أن ما يقومون به خفي لا يعرفه الناس والرأي العام، لكنهم يخدعون أنفسهم، فأفعالهم معروفة مكشوفة.
وكم من نفوس متأثرة بل ومنكسرة من الفقراء والمساكين الذين يرون بأم أعينهم الأموال وهي تنهب والحقوق وهي تضيع، والمعاملات تتوقف، والوظائف تعطى لغير مستحقيها، والابتزاز لا ينتهي، يرى المواطنين كل هذه المفاسد وليس بيدهم فعل شيء سوى الدعاء عليهم!
لكن المتابع لتعقب مرتكبي عاهة الفساد في عهده الجديد الذي تقوده الهيئة يدرك أن جدار الفساد الحديدي بدأت بالفعل الثقوب والشروخ ظاهرة على جسده الفولاذي ويمكن من خلال تلك الثقوب والشروخ رؤية النور على الجهة الثانية - وهذا تطور غير مسبوق.
وإذا كان جدار برلين قد سقط عام 1989 كمقدمة لسقوط الاتحاد السوفييتي السابق وسقوط نظامه السياسي، فإن جدار الفساد لا يمكن أن يسقط سقوطاً مدوياً كما سقط ذلك الجدار، لكن يمكن أن يحاصر من جميع الجهات ونعنى بها الرقابات السابقة واللاحقة والرقابة القضائية، وتعقب الهيئة للفاسدين ليقعوا في مصيدتها المنصوبة على الدوام سلاح ضد الفساد، وتفعيل قانون من أين لك هذا بالحذف أو الإضافة أو التعديل.
وتأتي العقوبة الناجزة على قدر الجرم المرتكب لتصبح (رحمة) ولذلك فإن تلك الأحكام التي صدرت بالسجن والغرامة وإعادة ما سرق، يمثل العدالة الحقة، وفي نفس الوقت إشارة قوية من الدولة لكل من تسول له نفسه استغلال صلاحيته الوظيفية لتحقيق مآرب غير نظامية له أو لغيره.
والله ولي التوفيق،،،
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة