عبدالرحمن الحبيب
النفوذ الهائل لشركات التكنولوجية الكبرى (خاصة جوجل وفيسبوك) الذي اعتبره البعض أقوى من نفوذ الدول، أثار القلق لما تملكه من قوة احتكارية على المستوى الاقتصادي والإعلامي والمعرفي، وتعديها على حقوق النشر والملكية الفكرية، إذ تعاني المؤسسات الإعلامية والصحف من استيلاء المنصات الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي على جهد تلك المؤسسات من توفير الأخبار والتقارير والمعلومات دون مقابل..
من هنا بدأت بعض الدول والمؤسسات الإعلامية الدخول في سلسلة معارك قانونية وتنظيمية مع هذه الشركات، مما له وقع الموسيقي في آذان الصحافة والتلفزة على أمل استعادة ولو جزء بسيط على الأقل من عائدات الإعلانات التي خسرتها الشركات الإعلامية لعمالقة الإنترنت.
الآن، تواجه عمالقة التكنولوجيا معارك قضائية، فبعد إقرار قانون في أستراليا يسمح للحكومة بتعيين مُحكّم لتحديد الرسوم إذا لم تتفق جوجل وغيرها من منصات الإنترنت مع الناشرين، هددت جوجل بتعطيل محركها البحثي في أستراليا رداً على مشروع القانون. أما شركة فيسبوك فذكرت إنها ستقيد نشر الأخبار بموقعها في أستراليا؛ وقبل أيام منعت مستخدميها في استراليا من مشاركة أو رؤية المحتوى الإخباري بسبب خلاف على قوانين مرتقبة لتنظم عمل منصات التواصل الاجتماعي..
غوغل ذكرت، بعد تعرضها لضغوط من برلمانيين في أستراليا وبلدان أخرى، إنها ستشرع في تسديد مقابل لما تنشره بعض وسائل الإعلام، وقال روبرت تومسون المدير التنفيذي لمجموعة نيوز كورب: «هذه قضية ناضلنا من أجلها في الشركة أكثر من عقد من الزمن، وأنا سعيد بتغير شروط التعامل ليس بالنسبة لنا في نيوز كورب فحسب بل لجميع الناشرين.. اتهمنا على مدار سنوات بأننا نخوض معارك وهمية، وما كان حملة أحادية ومطلبا غير معقول أصبح اليوم حركة ستتعزز من خلالها الصحافة والمجتمع على السواء». وأفادت وكالة رويترز بأن جوجل وافقت على دفع 76 مليون دولار خلال ثلاثة أعوام لمجموعة من 121 ناشراً في فرنسا لإنهاء نزاع بشأن قوانين حقوق الملكية الفكرية في أوروبا.
دول الاتحاد الأوروبي بدورها بادرت بوضع مشروع خطة لمراجعة كتاب القواعد الأساسي للإنترنت الذي قد يكون جاهزا خلال عام، وبدأت المفوضية الأوروبية في إعداد طرح سلسلة من المقترحات حول إدارة البيانات تهدف إلى تغيير الطريقة التي تعمل بها المنصات الرئيسة الأعمال التجارية في أوروبا والعالم؛ مع وجود تشريعان - قانون الخدمات الرقمية (DSA) وقانون الأسواق الرقمية (DMA) - يهدفان إلى إعادة هيكلة حوكمة المنصات التي هيمنت تقنياً منذ أواخر التسعينيات..
أما أستراليا فقد قفزت للخط الأمامي لبدء مواجهات شرسة مع عمالقة الإنترنت.. يقول سلفاتور بابونيس (باحث بمركز الدراسات المستقلة، سيدني): «وسط رد الفعل المتزايد ضد العمالقة الرقميين الأقوياء، أصبحت أستراليا نقطة الصفر: حالة اختبار للمدى الذي سيذهب إليه المشرعون، وكيف ستقاوم شركات الإنترنت؟». مقاومة عمالقة الإنترنت بدأت بالفعل، فقد هددت جوجل بإيقاف تشغيل أخبار جوجل في أستراليا، وحتى محرك البحث بالكامل، إذا مضت الدولة قدمًا في لوائحها المخطط لها. أطلق المشرعون الأستراليون على هذا «التنمر» و»الابتزاز»، بينما قال رئيس الوزراء سكوت موريسون: «نحن لا نرد على التهديدات».
المشكلة الحقيقية هي أن معظم السياسيين والكثير من الصحف لا يفهمون كيفية عمل الإنترنت، حسبما يذكر بابونيس الذي يوضح أن أستراليا تطالب بشيء أكثر تدخلاً بكثير من مجرد اقتطاع بسيط من عائدات إعلانات جوجل، فهي تريد من جوجل إرسال خوارزميات البحث عن الأخبار إلى وكالة حكومية للمراجعة والموافقة، فهذا التغيير الذي يبدو صغيراً من شأنه أن يهز الإنترنت في جوهره..
يقول بابونيس: ما لا يفهمه المشرعون هو أن خوارزمية البحث الحديثة ليست برنامجًا ثابتًا يترجم استعلام المستخدم إلى نتيجة موحدة، إنها خدمة مخصصة تستخدم التعلم الآلي لتخصيص نتائج البحث للملفات الشخصية للمستخدمين الفرديين. فمثلاً، إذا كنت تبحث عن «شيكاغو»، فقد تحصل على روابط للمدينة، لكن إذا حدث عرض مسرحية شيكاغو الموسيقية في مدينتك، فستحصل على رابط لشراء التذاكر، أو ربما تحصل على روابط للفرقة إذا كان لديك تاريخ من الاستماع لموسيقى الروك.. أصبحت جوجل هي المهيمنة تمامًا في البحث فهي الوحيدة التي أتقنت الكيمياء الدقيقة لفهم ما يبحث عنه الأشخاص..
ثمة سؤال آخر: ما هو موقف واشنطن؟ هل ستدافع عن هذه الشركات كما فعلت سابقاً؟ يرى بابونيس أن الأمريكان قد يبحثون عن مصالح صناعتهم بالداخل، حيث يوجد ضغط متزايد للشركات التكنولوجية، خاصة في الكونغرس الأمريكي. حتى إدارة ترامب دعمت علنًا جوجل وفيسبوك؛ ومن الصعب تخيل إدارة بايدن ترفض مساعدتهم.. وإذا كان بايدن يشدد على العمل مع الحلفاء لحل مشكلات العالم، فمن غير المرجح أن يعمل معهم لإسقاط شركات التكنولوجيا الكبرى.
في كل الأحوال، من مصلحة كل الدول وضع قواعد واضحة تنظم عمل منصات الإنترنت لا سيما وسائل التواصل الاجتماعي.. وهناك شبه اتفاق عالمي بأن الوقت قد حان لوضع قواعد دولية واضحة للإنترنت، بل يدعو البعض لإنشاء منظمة إنترنت عالمية على غرار منظمة الصحة العالمية.. إلا أن التحرك الدولي بطيء مقابل سرعة حركة شركات التكنولوجيا الكبرى..