إن طبيعة البيئة الجغرافية لمكة المكرمة، وتوسطها بين عدة جبال ساعدها على تشكيل عدد من التعرجات تضيق وتتسع بين شوارعها وحاراتها، والتي أصبحت بعد ذلك نسيجا عمرانيا تميزت به مكة المكرمة، مما كان له تأثير حضاري واجتماعي واقتصادي ضمن امتداد عمراني متطور، باختلاف دلالاتها العمرانية والذي شهدته مكة المكرمة في مراحل عمارتها المختلفة، والتي بدورها أصبحت جزءا متكاملا لمدينة مكة المكرمة في صورة جمعت بين طبيعة المكان وهويتها الخاصة التي تميزت بها، ضمن سلسلة مترابطة بين الشوارع والأحياء، كل هذه العناصر شكلت مقومات لطبيعة العمران عرفت بالأزقة، والتي أدت بدورها الصورة الحضارية لمدينة مكة المكرمة، وأصبحت جزءا من هويتها المكانية منذ عصور وأزمنة ظلت هذه الأزقة تحمل طابع البيئة الجغرافية والمكانية لمكة المكرمة.
الدلالات العمرانية للأزقة:
نجد من خلال تعدد المصادر التاريخية في وصف الزقاق، وذلك من خلال أنواع من الدلالات العمرانية والألفاظ المختلفة فنجده مثلاً باسم الخطط، أو الأزقة أو الدرب، وجميعها تحمل نفس معنى الأحياء السكنية فوجود هذه الصيغ المتواردة على معنى واحد ربع، خط، وزقاق، يعكس تنوع وتشعب المدينة الإسلامية في تكوين أحيائها السكنية، ووجود فروق معينة فيما بينها، ومكة المكرمة عرفت فن العمارة والتخطيط منذ أمد بعيد، حين قام قصي ابن كلاب جد الرسول –صلى الله عليه وسلم – بتخطيط الوادي ليكون أساساً بسيطاً لتخطيط مدينة مكة المكرمة، فقسمه إلى أرباع، بمعنى أنه جعل أربعة أحياء كبرى تدور كلها حول الكعبة المشرفة، وترك بين الكعبة والأحياء دائرة بمقدار المطاف المحيط بالكعبة على شكل دائرة بيضاوية من الشمال إلى الجنوب، وهي المساحة الخالية بين الكعبة ومقام إبراهيم –عليه السلام - ، فخصص لكل قوم من قريش حياً خاصا بهم.
وبذلك بدأ العمران يدب في الوادي فكانت مسؤولية توزيع الخطط وتركت حرية تقسيم الخطة للقبيلة وفقاً لإمكاناتها وظروفها في الإنشاء والتعمير ومدى الحاجة إلى ذلك، وبلغت حركة البناء ذروتها من جميع الاتجاهات المحيطة بالمسجد الحرام وعلى كل المحاور فبنيت المنازل ملاصقة للمسجد الحرام، فكانت الفراغات والأماكن المفتوحة قليلة والشوارع ضيقة.
جاءت الأزقة بألفاظ ودلالات أخرى منها الفناء أو الفراغ وهي عبارة عن فراغ مفتوح محيط بالمبنى أو مجاور له، والفناء والزقاق في رأي الفقهاء والسكان في المدينة العربية الإسلامية ينظر إليها كفراغات مفتوحة شبه خاصة ذات منفعة مشتركة بين السكان، وينظر المجتمع إلى هذه الفراغات على أنها جزء من الملكيات المجاورة، وأن أصحاب تلك الملكيات أولى باستخدامها والاستفادة منها، وتربط بين المنازل والدور، وترتبط بالطرق العامة أو الفرعية منها، والتي تكون منظومة متكاملة ومرتبطة بالأحياء السكنية والأسواق، ومنها ما تكون مفتوحة أو مغلقة وتعد أيضاً نقطة التقاء في مجموع الشوارع والسكك.
تخطيط مدينة مكة المكرمة عبر العصور والأزمنة التاريخية القديمة كان عشوائيا، والذي أدى بالتالي إلى بناء دور واحد للسكان وإيجاد أزقة للانتقال من مكان إلى آخر، فنظرا لأن الكعبة تتوسط الوادي الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في دعاء إبراهيم - عليه السلام - (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)، فأصبح بناء الدور يتناسب مع الشكل الدائري حول منطقة الكعبة، وبنى الناس بعد ذلك على نفس الطريقة التي كانت تبنى بها الدور في تلك الحقبة من التاريخ على شكل دور واحد مع المرافق، ومع تعدد الدور في كل رباع استلزم إيجاد طريق للحركة والمرور منه، وهذه الطريقة في إيجاد مسلك أو طريق كان متبع في المدن الإسلامية قبل ذلك.
والزقاق هي السكة أو الطريق الضيقة، وأحيانا كثيرة لا يتجاوز عرض الزقاق المتر ونصف إلى ثلاثة أمتار، فإن ضيق الزقاق لا يسمح بمرور العربات أو المركبات الكبيرة، وهذا النمط في التخطيط وخاصة في مكة المكرمة لا زال موجودا على الحالة القديمة وفي بعض الأحياء القديمة لمدينة مكة المكرمة.
حيث كان الشارع الرئيسي بمكة يعد أطول شارع، وأكثره استقامة، وقد وصف المستشرق سنوك هورخرنيه الشارع الرئيسي بأنه: «أعرض شوارع المدينة المقدسة»، وكان هذا الطريق يحيط بالمسجد الحرام، ويخترق عدداً من الأحياء الواقعة على امتداداته، مثل شعب بني عامر، وشعب بني هاشم، وخط بني جمح غرب المسجد الحرام، وسويقة شمال المسجد الحرام والتي ينفذ إليها عن طريق زقاق الحذائين، ثم عرف بزقاق الحجر، وعرفت تلك الدار بعدها بمولد فاطمة الزهراء.
وإن تنوعت الدلالات والمفردات اللغوية والعمرانية للأزقة فإن الغرض من بيان ما ذكرته المصادر التاريخية والجغرافية والمقارنة بينها في اللفظ والمدلول، بينت جميعها أن الدلالات العمرانية للزقاق هي ما كانت عليه في كل المدن الإسلامية من حيث تشكيلها ضمن فراغات متعرجة وغير مستقيمة، وأحيانا تضيق وتتسع ولم يقتصر ذلك على مكة المكرمة كونها ذات طبيعة جغرافية تحيط بها الجبال من كل اتجاه، فالأزقة عنصر من عناصر المدينة الإسلامية.
الطبيعة المكانية للأزقة في مكة المكرمة
إن مساحات واتجاهات التوسع العمراني لمدينة مكة المكرمة ساهمت فيها عدة متغيرات منها العامل الديني، فمنذ نشأة مكة المكرمة عبر عصورها وعبر مراحلها التاريخية كانت وظيفتها ولا زالت الوظيفة الدينية هي مركز اهتمام ومقصد لجميع أفئدة المسلمين، وكان لهذا العامل أبلغ الأثر في هجرة كثير من المسلمين إليها، مما أدى إلى كثافة الكتل المعمارية، وتقاربها بعضها البعض من خلال الطرقات المتعرجة التي يتحدد اتساعها وضيقها تبعاً لوظيفتها.
يأتي تخطيط مكة المكرمة في الأساس طبقا لوجود المسجد الحرام، ولطبيعة مكة المكرمة الجغرافية حيث تكون الشوارع في العادة مقابلة لأبواب المسجد الرئيسة، وهذه الشوارع الرئيسية اتساعها من خمسة إلى ستة أمتار بالمتوسط وتتقدم البيوت تارة إلى الشارع وتتأخر تارة أخرى، بما يجعل الشارع الرئيسي يتسع ويضيق بوجه عام في أنحاء مكة المكرمة، فضلا عن ذلك فإن الشوارع الفرعية تكون أكثر ضيقا، وهي ما تمسى الأزقة والتي تنصب في نهايتها الأسواق، فهي إما مكشوفة كأسواق الحدادين والخرازين وغيرها مما لا تتأثر بطبيعة الأجواء، وإما مسقوفة كأسواق الملابس والأطعمة.
فشوارع مكة المكرمة الرئيسية منها والفرعية هي بطون الأودية والشعاب التي قامت عليها المدينة، ولا يشذ عن هذه القاعدة إلا بعض الطرق القصيرة عن طريق فتح العقبات أو بناء الجسور أو عن طريق الأنفاق، مما يبرز التأثير الكبير للعوامل الطبيعية على طرق مواصلات مكة المكرمة، فإن بناء المنشآت والبساتين يقتضي ظهور شوارع وأزقة كمرافق للتطورات العمرانية، بعد أن تكدست المنطقة المحيطة بالمسجد الحرام، وبدأ الزحف والتوسع على السفوح الجبلية القريبة منه، حيث المظاهر العمرانية التي شهدتها الشوارع في تلك الحقبة، فكانت انسداد بعض الشوارع نظراً لتعرض بعض المناطق السكنية للتلف والتخريب بعد نتيجة السيول التي تجتاحها في مواسم الأمطار، فسدت بدايات الشوارع التي يقع عندها الخراب والأزقة الشارعة على الوادي، وإلى جانب ذلك فقد أغلقت بعض الشوارع المؤدية إلى المسجد الحرام.
تأثير الأزقة على الناحية الاقتصادية لمكة المكرمة
شكلت الأزقة تأثيراً على واقع الحياة الاقتصادية حركتها وذلك نتيجة فتح العديد من الأسواق والمتاجر على جانبي الزقاق لبيع مختلف الأصناف والبضائع على جانبيها، ويلاحظ أن الأزقة تبدأ من الأحياء السكنية باتجاه المسجد الحرام، كما أدى إلى التقارب في بناء الدور إلى جعل العناصر العمرانية لتلك الرباع تميل إلى الخصوصية في أغراضها، فالشوارع والأزقة الموزعة في تلك الرباع كانت مخصوصة بها حتى إنها سميت بأسماء الحرف والصناعات وأنواع التجارة التي كانت تباع فيها.
فقد قامت بدور مهم في تاريخ الحياة الاقتصادية، فكلما اقتربت الأزقة من المسجد الحرام زادت المتاجر، وقد سميت بعض الأزقة باسم البضاعة أو الحرف التي كانت تباع فيها مثل: زقاق العطارين سمي نسبة إلى العطارين الذين يبيعون العطر، وهو اسم للطيب وحرفتهم العطارة، وزقاق الحدادين سمي بالحدادين الذي يصنعون الحديد للانتفاع به، حيث يقومون بصناعة الأواني المنزلية الحديدية وصناعة الأسلحة، وزقاق الخرازين، سمي بذلك نسبة إلى الخرازين الذين يقومون بدباغة الجلود للاستفادة منها في صنع النعل والخيام والأواني الجلدية، فكان لهذه الأزقة تأثير اقتصادي طوال العام وفي مواسم الحج تزدهر بكثرة القاصدين لها للبيع والشراء.
تأثير الأزقة على الناحية الاجتماعية لمكة المكرمة
تعززت العلاقات الاجتماعية وارتبطت بين سكان الزقاق لتقارب الدور من بعضها البعض، والتي قد تصل في بعض الأزقة إلى ملاصقة المنازل مع بعضها البعض، وهذا ينعكس على قوة وارتباط العلاقات بين جيران الزقاق، ففي الزقاق تظهر قيم المساعدة للسكان والجيران وأيضا استخدمت بعض الأزقة متنفسا للأطفال والشباب يلعبون فيها الألعاب المختلفة، وهناك مساحة كبيرة خارج الزقاق تسمى البرحة وهي تقع في وسط الدور الذي تطل عليها، ويربط الزقاق بين هذه الساحة والجهة الأخرى فنجد أنه يخترقها عدد من الأزقة.
وفي هذه الساحة التي تتوسط المنازل غالبا ما ينتهي عندها الزقاق تقام فيها مناسبات الأفراح أو العزاء، وتكون أشبه بمتنفس لالتقاء أبناء الحي الواحد، لذا فإنه لم يعد في تخطيط المدينة الحديث وجود للأزقة، وهذا بدوره أعطى للأزقة تأثيرا حضاريا على المدن نتيجة عوامل ساهمت في تشكيل هذه الأزقة.
نتائج الموضوع:
1- أن الأزقة هي إحدى مظاهر المدينة الإسلامية والتي تميزت بها مكة المكرمة وأوجدت معها صفة حضارية وعمرانية شكلته طبيعة المكان.
2- تعد الأزقة نمطا عمرانيا كانت سبباً لنشأة المباني والأسواق، فقد وصف العديد من الرحالة بأن الشوارع في الأحياء القديمة لمكة المكرمة تتسع وتضيق وتنحني بشكل غير منتظم.
3- تأثير الطبيعة المكانية والعامل الديني في تشكيل المساحات الجغرافية لمدينة مكة المكرمة أدى بدوره إلى تشكيل الأزقة.
4- اتخذت الأزقة أسماء للمهن والحرف والصناعات التي كانت تقام في جوانبها.
5- كان للأزقة تأثير على النواحي الاقتصادية والاجتماعية حيث تعد مركز تجمع الأسواق والبضائع طوال العام، ومكانا للاجتماعات والمناسبات.
المصادر والمراجع:
- % القرآن الكريم.
- الأزرقي، أبي الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد ،ت250هـ ، أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار في قديم الدهر، تحقيق، عبد الملك بن دهيش، مكة المكرمة، ط2، 2008م.
- فهيم، محمد علي، ملامح النشاط الاجتماعي في مكة المكرمة في القرن الثاني عشر الهجري / الثامن عشر الميلادي، الطبعة الأولى، القاهرة، زهراء الشرق، 2009م.
- الخريجي، أروى محمد سليمان، التطور العمراني لمكة المكرمة منذ الفتح حتى منتصف القرن الرابع الهجري، رسالة ماجستير، جامعة أم القرى، قسم التاريخ، 1436هـ/ 2015م.
- الوذيناني، حنان حامد: اتباين النمو العمراني في المخططات السكنية –دراسة تطبيقية على جنوب مدينة مكة المكرمة، رسالة ماجستير، جامعة أم القرى، قسم الجغرافيا، 1432هـ/ 2010م .
- فقيه، صدقه سعيد: «تأصيل الطابع المعماري المكي في عمارتها الحديثة»، رسالة ماجستير، جامعة أم القرى، قسم العمارة الإسلامية، 1430هـ .
- الهيئة العامة للسياحة والآثار: التراث العمراني السعودي تنوع في إطار الوحدة، الرياض، مكتبة الملك فهد الوطنية، 1421هـ.
** **
- أمل أحمد الحربي