أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
قال (ابن أبي الآفاق التراثي):
- يبدو أنَّنا في اللغة العَرَبيَّة المعاصرة نقف بين فرقاء متشاكسين: أُصوليٍّ متنطِّع، وعَيِيٍّ عن فهم العَرَبيَّة وبلاغتها.
- مثل مَن؟
- مثل أولئك الذين يُخطِّئون الاستعمالات الدارجة، وإنْ كانت صحيحة، بل قد تكون أصحَّ من اللغة الرسميَّة في الاستعمال الفصيح.
- هل من مثال؟
- كثيرةٌ الأمثلة، وحسبك من القلادة ما خنقك! وقد ضربتُ لك بعضها من قبل.
- اضرب لي بعضًا آخر، ولا يهمَّنك.. وليخسأ الخاسئون!
- مثال على ذلك كلمة «طِيْلَة». فنحن تلقَّينا تعليمنا الابتدائي، في جِيلي، على أيدي أساتذة أعزَّاء من بلدان الشام، من (فلسطين) و(الأردن)، خاصَّة، وربما كانوا وراء اكتسابنا بعض التعبيرات، مثل قولنا: «طِيْلَة الوقت»، أو «طِيْلَة العام الدراسي». ولمَّا كبرنا، وتفقَّهنا في العَرَبيَّة، أو هكذا شُبِّهَ إلينا، قال لنا الفقهاء الأصوليُّون من اللغويِّين، إن الصواب أن نقول: «طَوَال الوقت»، و«طَوَال العام الدراسي».
- وما العيب في ذلك؟
- العيب أنَّ عبارة «طَوَال الوقت» مغسولةٌ من معناها البلاغي. والمشكل أنَّنا نلتزم بما وُجِّهنا إليه، صُمًّا وعُميانًا، من دون تأمُّلٍ أو بحث. بل نطبِّق ذلك على طلبتنا من بعدنا. وهكذا تستمرُّ عمليَّة إماتة العَرَبيَّة وبلاغيَّاتها التعبيريَّة، بدعوَى التفاصح.
- كيف؟
- طِيْلَة بمعنى: «عُمْر»، وطَوال بمعنى: الامتداد الزمني الطويل، لا أكثر. يقول الشاعر الأُموي (القطامي، عُمَير بن شُيَيم، -نحو 101هـ= 719م):
إنَّا مُحيُّوكَ، فاسلمْ أيُّها الطَّللُ ... وإنْ بَليتَ، وإنْ طالتْ بِكَ الطِّيَلُ
والطِّيَل: جمع طِيْلَة. فمعنى قول الشاعر: وإنْ طالت بك الأعمار. ومن هنا فإنَّ قول القائل: «طِيْلَة الوقت»، أو «طِيْلَة العام الدراسي» صحيح، وفيه فضلُ تعبيرٍ بلاغي. لأنه لا يريد أن يشير إلى طول امتداد الوقت فحسب، ولكن يريد أيضًا أن يومئ إلى أنَّ طوله كطول العُمْر. كأنَّه يقول: بامتداد العُمْر الزمنيِّ لذلك الوقت، أو بامتداد العُمْر للعام الدراسي. وهكذا يتَّضح أنَّ في كثيرٍ من التعبيرات المستعملة في دارجتنا اليوميَّة مجازاتٍ لطيفة، وأحيانًا بلاغاتِ حذفٍ، يغفل عنها فقهاؤنا اللغويُّون. أو بالأحرى لا يمتلكون حِسَّها الفِطريَّ أصلًا، الذي ما بَرِح في العَرَبيَّة اللهجيَّة، وإنْ لم تكن مُعرَبة، وإنَّما يفرضون على الناس لغةً معجميَّةً باردة، ليست بلُغةٍ على الحقيقة، كثيرًا ما تفتقر إلى التصوير، والمجاز، وبلاغة التعبير. وقد تقدَّم، في مقالٍ سابقٍ تحت عنوان «أنفلونزا المجاز»- تجده عبر «قوقل»- كيف أنَّ هؤلاء قد يمتدُّ تطاولهم إلى تخطيئ كبار الشعراء. فيقولون، مثلًا: إنَّ قول (أبي الطيِّب المتنبِّي): «تَجري الرِّياحُ بما لا تشتهي السُّفُنُ»، خطأٌ، صوابه: «السَّفِن»؛ لأنَّ السُّفن لا تشتهي! ولا تسألني: ما معنى «السَّفِن» هذه! وطبعًا هؤلاء ورثة الحساسيَّة من المجاز في اللغة، من السلفيَّة التيميَّة، في ما ظلُّوا يشنُّونه من مغازٍ مباركةٍ وحروبٍ طاحنةٍ ضِدَّ أبناء عمومتهم المعتزلة!
- لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله! يذكِّرني هذا بسالفة رجلٍ أراد أن يغيظ امرأته فخصَى نفسه! يوشك هؤلاء المتأخِّرون في تبلُّدهم البلاغيِّ أن يكون أحدهم كإنسانٍ آليٍّ، يُردِّد ما بُرمِج به، بلا وعيٍ بطبيعة اللغة ووظيفتها. لكن ماذا عن بقية الفرقاء المتشاكسين؟
- منهم- في المقابل- مغسول الهويَّة، ساقط الانتماء، وجاهلٌ مؤدلَج. كذلك (القُمُّص المشلوح)، الذي حكيتُ لك عنه في مساقٍ سابق.
- آه، صحيح، ما أخباره؟ شوَّقْتَني إلى فَهاهاته! فهاتِ ما لديك من آخِر أخباره.
- عهدي به قديم. لكن لا جديد لديه، حسب آخر اطِّلاعي، وإنَّما يُعيد ويُبدئ كلَّ يومٍ في قضايا عتيقة، أكلَ الدهرُ عليها وشَرِب، وقُتِلَت بحثًا ودرسًا. يظلُّ يُنقِّر فيها، لعلَّ وعسى؛ لأنَّ الرجل محترِقٌ...
- محترِقٌ؟ تقصد: محترِف!
- لا، بل هو محترِقٌ بالتفتيش عن شيءٍ ما يتنقَّص به من الإسلام، بوصفه عقيدة، يريد أن يحاربها؛ لأنَّها تخالف معتقده. وهذه كلُّ الحكاية، وهذا جوهر اهتمامه، ولا شأن له لا باللغة ولا بالثقافة، فما هاتان عنده غير وسيلتين. تراه يقفز كالسَّعدان من موضوعٍ إلى موضوع، تارةً يطلع بعمامة العالِم اللُّغوي البحر، في وقتٍ لا يقيم كلمتين سليمتين من اللحن والعجمة والعِوج والعِيِّ والعاميَّة- فضلًا عن العَمَى بدلالات الألفاظ، وأساليب العَرَب البلاغيَّة- وتارةً ينتفش في عرض ملابسات التاريخ، وتارةً يخرج ليُلقي سنَّارته في بحور العِلم الطبيعيِّ والفَلَك، وهكذا دواليك. إنَّه حاطب ليل، لا يحترم عِلمًا، ولا عقلًا، ولا نفسه.
- تلك هي اللجاجة في التعصُّب، حينما يعصفان بصواب مَن لا صواب له؛ فإذا هو يتعلَّق بقشورٍ يجمعها، أو تُجمَّع له، لينثرها على مائدة مؤيِّديه، وبساط عوامٍّ ممَّن على صعيده وشاكلته، هاشًّا بسيفه الخشبيِّ طواحين الهواء، كما كان يفعل (دونكيشوت)، أو كما كان يفعل مجنونا القديم (أبو حيَّة النميري) بسيفه الخشبيِّ، الذي كان يدعوه «لُعاب المَنِيَّة»!
- وهكذا ما زال خائضًا في اكتشافاتٍ قُمُّصيَّةٍ لغويَّةٍ مذهلة، تليق بالقرن الحادي والعشرين. ونقول إزاء هذا: إنَّ لكلٍّ أن يُدافع عن وجهة نظره واقتناعاته، لكن مَن أراد أن يستدلَّ، فليكن أوَّلًا على عِلْم، وليبحث عن الحقِّ حيثما كان، لا عن عقيدةٍ ورثها، يقلب كلَّ شيءٍ في سبيلها لتستوي له. ثمَّ ليحترم العقول؛ فهي لا تختلف وإنْ اختلفت الأديان، وإنْ غُيِّبت إلى حين. أمَّا صاحبنا، فيمضي على ذاك النحو من الهذر، بالمعنى الفصيح، لا بالمعنى في الدارجة المغربيَّة.
- ماذا تعني؟
- كلمة «الهذر» بالدارجة المغربيَّة تعني الحديث أو المناقشة، بالمعنى الإيجابيِّ لا السَّلبي! وأمَّا قُمُّصنا الهُمام، فيهذر فعلًا، ليستغفل طوائف من الناس، ويُضلِّل البسطاء، عارضًا رُمحه بجزئيَّات معروفة سلفًا، نوقشت في كتب النحو والتفسير منذ مئات السنين، فإذا جَنابه يفرح بها أيَّما فرح، وكأنَّه مكتشف الجاذبيَّة، لاجًّا في صراخه: وجدتها.. وجدتها!
** **
(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا - الأستاذ بجامعة الملك سعود)