د. شاهر النهاري
ظل ينظر للزوايا بارتباك، وملامحه تتبدل، وشفتاه تهتز، ويده تغطي طرف أذنه، فكأنه يدير حديثاً مع أشخاص لا أراهم، ثم يعود لينظر نحوي بشك ووجوم، ويضحك، ويضرب كفاً على كف، ويهز رأسه، والبسمة الصفراء تنثال من طرف فمه المفتوح.
يعاود هرش فروة رأسه، وكأنه يبحث عن بئر يقين، ومن ثم يستوي في جلسته، ويمسح عن وجهه البسمة، وينظر لعيني، بتركيز مرعب، يزيد من تفرعات الخطوط الحمراء ترتسم فوق بياض عينيه:
- كلكم مجانين، وهذا بالطبع ليس وجهة نظري الخاصة، ولكني أحاول أن أقيس الأمور بطريقتكم المجنونة أنتم!
ويضحك، وهو يغمز بعينه، لجهة بعيدة من الغرفة، مما أشعرني، بأنه يرى ويساير، من لا أراهم:
- تتجملون في كل شيء، حتى المسميات تكذبون في تمريرها من شقوق أسنانكم، وأنتم تعلمون أنكم تكذبون فيها.
ويصمت وهلة، ثم يكمل بصوت مرتفع:
- أنا مجنون، فلماذا تُجَمِلُون الجنون، وتدّعُون أنه مرض نفسي، أو تخلف، أو اعتلال، أو ضعف عقلي، أو عدم قدرة على التركيز، أو حبيب الله، أو غيرها من المسميات السفسطائية السخيفة... عندما تتكلمون عن الجنون، فنحن كمجانين، نترجاكم عدم تجميل المسمى الخاص بنا.. قولوا عنا مجانين بكل صراحة.. لأننا كذلك، ونتميز عنكم بذلك.
ثم يميل برقبته تحت سريره، ويعود لوضعه ونظراته تشعرني بالخطر، وضرورة التأهب للهروب:
- حتى المعاقين، تبدعون في إطلاق الأسماء المختلقة عليهم، فمرة هم من ذوي الاحتياجات الخاصة، ومرة من ذوي القدرات الخاصة، ومرات هم من ذوي الهمم، وغيرها من مسميات كاذبة، وكأنكم تشتتون يقين المعاق، ولا تجعلونه يصدق بمعضلته، ليظل طوال الوقت ينكرها.
وينتقل بيده ليهرش خلف عنقه الناحل:
- ما الفائدة من عدم تسمية الأشياء بأسمائها، الأعمى تسمونه ضرير، ومبصر، وأبو عين كريمة، والأخرس تسمونه فصيحاً، ما هذا الخلط المريع!
ثم يصرخ وكأنه يهتف في مظاهرة:
- عاملونا بما نفهم، وليس بما تعتقدون أنه الأفضل لنا، لماذا لا يكون لي الحق في أن أقول: مجنون وأفتخر. ألستم جميعاً تفتخرون بما أنتم فيه من أحوال، رغم أنكم تبدعون في عدم المصداقية بما تفتخرون به، فهذا يهتف: أنا عربي وأفتخر، وهذا شأنه الخاص، ولكن لماذا لا تفهموننا عندما نهتف بقولنا: مجانين ونفتخر؟
أشعر بأنه فعلاً يتكلم بمنطق، وإن كان منطقا مجنونا بعض الشيء، وأفكر في الرد عليه، قبل أن يختطف مني الكلمة ويبتلعها، ثم يستشيط غضبا، ويلفظها من جوفه:
- الجنون نعمة لا تفقهون قدرها، فبحمد الله نحن لا نكذب، وليس بيننا سياسي يسير فوق السحاب، ولا إعلامي متزحلق، ولا تاجر غشاش يحلف ويلحس، ولا ملتح ملتوٍ متكسبٍ من قوارير النفث!
وأتذكر ساعتها بعض الحكام المجانين، ممن حكموا شعوبهم بمنطق الجنون، وأكاد أن أستشهد بهم، ولكنه لا يسمح لي بمبادلته الحديث، ويعاود تساؤلاته:
- هل رأيت يوماً فناناً مجنوناً رسمياً بختم البلدية؟، صدقني نحن أصل الفنون، بالجنون، ونحن لا ندعي الجنون المتجمل، فالمجنون الحقيقي لا يرسم مصب الرياح عكس مشاعره، ولا يكتب قصيدة مديح لمن لا يستحق، ولا يدعي هيام الحب، وهو كاره حتى لنفسه، ولمجرد رنين الذهب.
ثم يقوم من مكانه، ويهش بيديه في الهواء، وأنا لا أرى ما كان يهش، إلا لو كانت حشرة مجنونة، لا تريد الظهور لي من تحت جناحها الشفاف، ويكمل:
- لماذا لا تضعون أنفسكم في أماكننا، لتعرفوا أنكم أنتم المجانين، وأننا أعقل من كل منطق تزيفونه، ومصداقية تختلقونها، نحن ولا فخر لا نتجمل ولا نتكبر، ولا نتجبر مثلكم، ولا ندعي ما ليس فينا، ودوما نترك لكم الحكم على ما تظنون أنه الأفضل لأنفسكم المرتجة، مع أنكم لا تحصلون إلا على أسوأ الصفات ولا نعرف كيف تقومون بتحريف مسمياتها، لتصبح كرامات، وشرف، ونجاحات وتميز وسبق وتكريم وشهادات ومسميات واهية تسير على شعاع ضوء الظلمة.
حقيقة أني لم أعرف كيف أرد عليه وهو هائج بالقرب مني، فكأنه قرأ مشاعري، وعاد لمقعده، وهمس لي ولمن لا أراهم:
- لا تخشى على نفسك من مجنون، وانتبه لمن يدعون أنهم ليسوا مجانين ففاقد الشيء لا يعطيه.
ثم عاد لجلسته وشد غطائه المنقط:
- أرجوك أريد أن أرتاح، اخرج واسحب يد الباب بعدك كما تسحب خروف العيد، أم أنك مثلهم، ستغلق نصف إغلاق، ثم تعاود دس بؤبؤ عينك في الخرم، أو التجسس من أي فرجة، طمعاً في اكتشاف جديد أو خلل يسعدكم، حين تؤكدون فيه عقلانيتكم ونزاهتكم، وأن الخلل والشرور تكمن فينا، وغير مستبعد أن تقوموا بتلبيسي القميص الغريب، وتقييدي بأكمامه الطويلة، وأخذي لغرفة الصعق الكهربائي، حتى تضوي جبهتي وعيناي بألوان الطيف ألفي الألوان، وتحترق أوراق أفكاري، لمجرد شكوك تمتلكونها، وتزيدونها رتوشا، رغبة في اظهار بياض أنفسكم من خلالها، بادعاء أنكم أكثر عقلانية منا، وأكثر رحمة بنا، وأن جنونكم المنافق المنزلق أفضل من جنوننا الصريح وهو يهوي من أنوفكم كجلمود صخر حطه غروركم من عل: ابن عمي!