د. سلطان سعد القحطاني
كانت قراءاتنا في بداية حياتنا الدراسية في سبعينيات القرن الماضي لا تتعدى ما يقع بين أيدينا من الأدب العربي المصري، ثم أدب المهاجرين العرب في الأمريكتين مما هو مقرر في المرحلة الثانوية. ثم أُتيحت لبعضنا قراءة الأدب الجاهلي وصدر الإسلام من الشعراء البارزين، مثل: عبدالله بن رواحة وحسان بن ثابت، حتى عرفنا النقائض بين الفرزدق وجرير والراعي النميري، ومن في حكمهم، وكانت تلك النقائض تقع في أذهان بعضٍ منا موقع السهم من الكنانة نظراً لسن المراهقة الفكرية، فنستشهد ببعض الأبيات في هجاء بعضنا على سبيل الدعابة، مثل (فغض الطرف إنك.....)، وكثيراً ما نحرف في بعض الأبيات لتركيبها على الممدوح أو المهجو، حسب الموقف، شعراً لغرض الفكاهة. وعرفنا في تلك المرحلة بعض الشعراء الأندلسيين، مثل ابن زيدون، وولادة بنت المستكفي، وحمدونة. وأكثر ما يشد انتباه بعضنا دقة الوصف والطبيعة والحزن في كثير من ذلك الشعر. ومن المؤسف أن بعض الكتب التي كانت تفد إلينا من بعض البلاد العربية كان مؤلفوها من الشعوبيين أصحاب الفكر الرديء، فوصفوا هارون الرشيد بالمجون وحياة اللهو الساقط، ويزيد بن معاوية بالمجون وتحريف القرآن، وغير ذلك كثير.
أما الأدب الأندلسي فلم نظفر منه إلا بما ذكرت آنفاً. وعندما بعث الله الباحثين الجادين العلميين بحق تكشف لنا الكثير من الزيف الذي أحيطت به تلك الثقافة، فلا الرشيد ولا الأندلسيون ولا الكثير مما ذكر على تلك الصورة القاتمة من صنع الشعوبيين والملاحدة وسواهم.
ومن سأتحدث عنه في هذه المقالة باحث جاد منذ بدايات حياته إلى اليوم - أمد الله في عمره - الدكتور عبدالله بن علي ثقفان، أستاذ الأدب الأندلسي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. والدكتور عبدالله كرّس جهوده البحثية في مجال الأدب الأندلسي، وسد فراغاً كاد يتسع في هذا المجال، وعمّر المكتبة السعودية والعربية بأبحاثه في هذا المجال، ويعتبر كتابه الذي سأتحدث عنه - باقتضاب في هذه الحلقة - كتابًا أشبعه بحثاً، وتقصى فيه جوانب يجهلها كثير من المتلقين لسببين اثنين: الأول الإيجاز غير المخل، فقد وُفق في إيصال المعلومة من غير لف ولا دوران حول المعنى المقصود. والثاني: إشباع البحث بالمراجع التي تفتح أفق التقصى لمن أراد ذلك. ويعتبر كتاب الدكتور عبد الله (في الفكر الأندلسي) الصادر العام المنصرم مرجعاً لمعرفة أحوال العرب في جزء مهم من أجزاء أوروبا، ودليلاً قاطعًا على مآل تلك الحقب التاريخية للثقافة العربية في انهيار ما بناه الآباء والأجداد من علم وفكر متطور أصبح منارة للثقافة والعلوم في أوروبا التي كانت تعيش تحت بنود التخلف الكنسي، الذي حجبها عن نور الإسلام الذي أشرق بنوره على العالم.
ألّف الدكتور عبدالله كتابه هذا في مئة صفحة، شملت مقدمته ومراجعه ومصادره، لكنه بحجم مجلد، من الناحية العلمية؛ فقد كشف في إيجاز غير مخل - كما أشرت إلى ذلك - عن جوانب بعضها مجهول لكثير من القراء، شعراً ونثراً. وهذا الكتاب وأمثاله يُعتبر خارطة طريق للباحثين، من حيث المادة العلمية والمراجع، من كتب ومجلات علمية، وهو إضافة مهمة للمكتبة العربية.
والدكتور عبدالله ثقفان تناول موضوعاً غاية في الأهمية، وقد تفرد بهذا الموضوع بشمولية موجزة، اختلفت عن كثير من البحوث التي سبقته في ترديد بعض العبارات، حقاً وفق في صياغة موضوعه باختصار غير مخل، كما أشرت من قبل. ولو كان في المساحة متسع لأفردت له مساحة أكبر. وعلى من يرغب في التوسع الرجوع إلى الكتاب.