د. إبراهيم بن محمد الشتوي
في الآثار الواردة عن الرسول صلى الله وعليه وسلم، أنه «خرج مغضباً يجر رداءه»، أو أنه «يجر رداءه» في روايات مختلفات؛ مرة في السهو في الصلاة وأخرى في كسوف الشمس بعد وفاة ابنه إبراهيم.
ليس هناك فعل حقيقي قام به أحد يستدعي الغضب الطبيعي الذي يكون حادثاً عن ردة فعل قام به شخص تجاه الغاضب، هو مجال الغضب وسببه، خاصة أننا حين نتأمل دوافع الغضب في هذين الموقفين نجد الأول يتصل بسهو النبي نفسه في الصلاة، وهو أمر خارج عن إرادته، ومعلوم رفع الحرج عن المسلمين في النسيان، والآخر ربما حدث عن موقف الناس من الكسوف وربطه بوفاة إبراهيم بن محمد، والقول فيه لا يختلف عن السابق إذ إنه ناشئ عن الجهل وهو ما لا يؤاخذ عليه.
وربما يكون الغضب في حادثة الكسوف ناشئاً عن الكسوف نفسه بناء على أن الشمس والقمر من الآيات التي يخوف الله بها عباده، وهو ما يعني -ربما- أن الكسوف أمارة على غضب الله، ولذلك خوفهم بها، وجاء الغضب استجابة لغضب الله.
الروايات لا تجمع على «تخويف العباد» كما أن تخويف العباد ليس بالضرورة ناتجاً عن الإغضاب، وإنما قد يكون له أسباب أخرى، خاصة وأن «لغضب» يأخذ في النصوص الشرعية أبعاداً دلالية أخرى يقوم عليها حكم فقهي.
بيد أن الأمر المهم في الحالتين، أن النبي محمداً خرج غاضباً دون سبب بين لهذا الغضب، فإذا كان هو الحليم الذي لا يغضب في مواقف تستثير الغضب، ويدعو إلى الحلم، فكيف يغضب دون سبب بين؟
من خلال العرض السابق، نجد الغضب فعلاً مستقلاً قائماً بذاته مفصولاً عن سببه أو عن ظروفه ليكون هو الدال، وهو الفعل، وليس نتيجة أو ردة فعل عن حدث سابق، ما يعني أن الغضب في هذا الموقف ينشئ إشارة إلى أن هنا في هذا الموقف ما يستدعي الغضب أو ما يستدعي عدم الاستقرار والراحة، سواء كان الكسوف الذي ينبغي أن لا يمر مروراً طبيعياً، أو السهو في الصلاة بناء على أنهما حدثان غير عاديين، فالغضب ناتج عن غرابة الفعلين أو الرغبة في إفهام المتلقي بأنهما حدثان غير عاديين، ولكن عوضاً عن الاعتماد على الجدل والإقناع اللذين قد لا يؤديان إلى شيء، يعتمد المرسل هنا وهو الرسول على الغضب بوصفه فعلاً غير مفهوم وغير قابل للنقاش.
وهو -الغضب- تقنية خطابية اعتمد عليها الرسول صلى الله عليه وسلم في كثير من المواقف حين يرغب أن يبين أهمية موضوع الحديث كما في الأثر: «ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت»، لأنه شق على نفسه وهو يكررها.
وقد تكون في المثل الأخير تقنية بلاغية لكنها توحي بموقف أيضاً من الفعل الذي ارتبط به حيث استعمال الغضب في سياقات لا تستدعي الغضب الطبيعي على وجه الحقيقة، فالتعبير بالغضب -إن صح التعبير- يوصل رسالة مغايرة عن التعبير بالكلام.
ما هي الرسالة التي يوصلها التعبير بالغضب؟ ذكرت من قبل إنها في الكسوف والسهو للإشارة بأن هذين الحدثين كبيران، وهذا معنى صحيح، إلا أنه ليس هو المعنى الوحيد، فقد يدل الموقف على أن الخطب وحدها غير كافية وأنه أكبر من الكلام، فيصبح الغضب هو الطريقة الوحيدة، وذلك أن الكلام يعتمد على الصوت في حين أن الغضب لا يعتمد على الصوت بقدر ما يعتمد على الصورة، صورة الغاضب ساعة تلبسه بالغضب، وفي هذه الحالة لا يعتمد على اللسان والشفتين وجهاز النطق في إحداث الرسالة وحدها بل يعتمد على الجسد كله ابتداء من لون الوجه إلى حركة اليدين والمشي ونحوه إضافة إلى منزلة الغاضب في نفس المتلقي الذي لا يرغب أن يراه على هذه الصورة إما خوفاً عليه وإشفاقاً أو خوفاً منه وحذراً.
وفي هذه الرسالة المبهمة تنفتح الدلالة على احتمالات كثيرة تتصل بشخصية الغاضب لا تحدها حدود الرسالة اللغوية المعروفة بقدر ما يحددها الموقف الذي جاء الغضب استجابة له، وهو ما يعني أن الرسالة فيه أعمق وأثرى، تتغير طبيعتها ومحتواها بتغير المرسل والسياق الذي جاءت به وموقف المرسل إليه أيضاً.
وهي في هذا المفهوم نتيجة موقف وليس عاطفة، فهي من عمل العقل الذي أنتجها، ما يعني أنها ليست منفلتة من الضوابط بوصفها نتيجة الهيجان في المشاعر الخارجة عن السيطرة وإنما هي منضبطة بضوابط العقل الذي يحدد القدر الكافي من الغضب، والتعبير عنه والاستجابة له.