من يعمل في المجال الأكاديمي، لابد أن يتعرض لما يسمى بالتحكيم. فإما أن تُرفع أعماله لمحكمين لنقدها وتمحيصها أو أن يقوم هو بتحكيم أعمال لآخرين. هذا التحكيم قد يكون لبحث يراد نشره في مؤتمر أو في مجلة محكمة. أو لكتاب سيصدر من جامعة أو دار نشر تحرص على تحكيم ما يصدر منها. وقد يكون التحكيم لأكاديمي يعرض أعماله رغبة في ترقية أكاديمية. والتحكيم على الأغلب هو عمل تطوعي. مع أن جامعاتنا السعودية تقدم مبلغا رمزيا لمن يحكم أبحاثا في مجلاتها او ترقية لأحد منسوبيها. وبسبب أنه عمل تطوعي ويحتاج لعين ناقدة تبحث عن الخطأ، أيا كان هذا الخطأ سواء في الكتابة او اللغة او المنهجية أو حتى النتائج وتفسيرها وما يستنتج منها. لذلك يتجنب الكثير من الأكاديميين التعاون في هذا المجال لما يستنزفه من الوقت في القراءة والكتابة النقدية وفي التواصل. وعلى الرغم من ذلك أجد ان هذا العمل يجذبني، لأني ارى في عيوب الآخرين نفسي. فيساهم بحثي عن الأخطاء وتتبع المثالب في تطوير مهاراتي وأدواتي البحثية. بالإضافة لذلك فهو يقدم لي ما يدور في الأوساط البحثية والتوجهات الدائرة هناك. والأمر الأكثر أهمية، هو أن يكون اسمك معروفا لدى المحرر التنفيذي في تلك المجلة. حتى لو أردت النشر فيها، لا يستبقك برفض البحث مباشرة. بل يوجهه لمحكمين. وإذا توجه البحث لمحكمين فقد قطع البحث نصف الشوط نحو النشر.
لذلك فإن النقد بذاته مهارة، يحتاج المُحكم أن يطورها ويعرف أين يمكن أن تقع الأخطاء حتى يختصر وقته ووقت الباحث بعدم التأخر بالرد. ولن نستغرق هنا في شرح تلك المهارات، ولكن أهم ثلاثة أجزاء في البحث تتعرض لسهام المحكمين هي العنوان والملخص والخاتمة. ففيها يتبين الغث من السمين.
كذلك تتطور مهارة النقد من خلال الكتابة والنشر في المجلات المحكمة حيث ترسِل تلك المجلات الأبحاث التي تصل إليها، إلى ثلاثة باحثين في نفس التخصص للتحكيم، ليصل هذه التحكيم والنقد، للباحث نفسه فيتطور لديه جانب الكتابة وكذلك النقد. والنقد هنا لا يشمل الجوانب العلمية فقط في البحث وإنما كذلك الجانب اللغوي وعلامات الترقيم والاستشهاد وطريقة كتابة المراجع وغيرها. وحيث إن أغلب الأبحاث العلمية تُنشر باللغة الإنجليزية وأغلب الباحثين ليست اللغة الإنجليزية هي لغتهم الأم. لذلك تنتشر الكثير من الأخطاء اللغوية في الأبحاث العلمية، والتي قد تخل بالمعنى وبشكل مغاير لما يريده الباحث. وهذا الأمر لا يضير الباحث، ولكن المجلات الرصينة لا تتحمل أبحاثاً مكتوبة بلغة ركيكة فترفض البحث بشكل مباشر قبل إرساله للمحكمين. لذا ينبغي على الباحث إرسال بحثه لمدقق لغوي قبل إرساله للمجلة حيث سيضاعف من نسبة قبول البحث ونشره. وقد تنبهت بعض الجامعات المتميزة لذلك مثل جامعة الملك فهد فتعاقدت مع أحد أفضل دور النشر في العالم للمراجعة اللغوية لأبحاث منسوبيها وتكفلت بمصاريف ذلك.
ومن ناحية شخصية، فمن خلال عملي في عضوية المجلس العلمي ورئاستي للجنتي الترقيات العلمية وكذلك التأليف والترجمة، تعرفت على عدد من أساليب الكتابة وأساليب النقد لتخصصات مختلفة عن تخصصي الهندسي. فلم أر بحثاً في المجالات الشرعية بأكثر من مؤلف واحد. والنقيض لذلك في الأبحاث الطبية حيث قد يصل عدد المشاركين في البحث الواحد إلى مائة باحث. ومن ناحية طول البحث، فمن الطبيعي أن تجد بحثاً في المجالات الشرعية يتجاوز المائة صفحة. والنقيض لذلك فقد ترى ابحاثا في الرياضيات البحتة لا تتجاوز ثلاث صفحات. كذلك، قد ينتقد المحكم الباحث أن أغلب مراجعه منشورة منذ أكثر من ثلاث سنوات للأبحاث في مجال الحاسب أو الاتصالات. بينما في الأبحاث الشرعية يمكن أن ينتقد المحكم الباحث حينما تكون أغلب مراجعه حديثة. كذلك في بعض التخصصات التي تختلف فيها التوجهات مثل العقيدة والأدب والعمارة. يواجه الباحث والناقد والناشر مشكلة في حال اختلاف التوجهات بين الباحث والمحكم. لذلك ينبغي على المحكم إما ان يكون محايداً في نقده، وهذا لا يمكن عمليا في بعض المجالات وإلا يعتذر عن التحكيم.
الجهد الذي يبذله الناقد أو المحكم قد يوازي جهد الباحث خاصة في تحكيم الكتب. فقد قرأت تحكيماً لأحد الكتب يتجاوز الثمانين صفحة. وللأسف فإن هذا الجهد لا يقرؤه إلا الكاتب نفسه واللجان المتخصصة فيضيع هذا الجهد المتميز في الكتابة النقدية. وبعض المجلات تسمح بنشر كتابة نقدية لأحد الأبحاث المنشورة لديها. ويسمى هذا النوع من الكتابة errata وقد يكون ذلك من الباحث نفسه لتداركه تلك الأخطاء أو من باحثين آخرين. وحينما يتم اكتشاف أخطاء جوهرية بعد النشر يُكتب أمام عنوان البحث في موقع المجلة الإلكتروني retraction بمعنى التراجع عن نشر البحث. ووجود هذه الكلمة امام أحد الأبحاث يضر بسمعة الباحث. لذا ينبغي للباحث ألا يكون النشر هو هدفه الوحيد بل المساهمة العلمية الحقيقية والمبنية على أسس صحيحة. وبعض الكتب أو الأبحاث تكون قائمة على نقد عمل ما. يحرص على نشر بحث أو كتاب فيه نقد لعمل ما.
ويوجد الكثير من الكتب والأبحاث التي تناقش قضايا النقد سواء كان النقد الأدبي أو العلمي أو حتى نقد الأعلام أنفسهم. والنقد هو جانب تحليلي ويسير جنبا إلى جنب مع الإبداع والابتكار فهو لا يجمحه بل يعززه ويوجهه. وإذا تجاوز ذلك فهو يضر البحث العلمي ويحجمه. ومن الأفضل أن يبدأ الكاتب بنقد عمله ذاتياً قبل إخراجه للآخرين. وقد اشتهرت قصة أرنست هيمنجواي حينما أعاد كتابة روايته الشيخ والبحر أربعين مرة. وحصل من خلالها على جائزة بيلتزر ثم ساهمت في فوزه بجائزة نوبل للأدب. وقد يتعارض ذلك مع السائد أن الإبداع والنقد منفصلان، حيث تنتشر فرضية أن الجزء الأيمن من الدماغ مسؤول عن الإبداع والجزء الأيسر مسؤول عن النقد والتحليل. ولكن في الواقع أن الإنسان يستخدم دماغه بشكل متوازن، فهو من خلال العمليات الإبداعية يستخدم التفكير الناقد، ومن خلال التفكير الناقد يتذوق الجوانب الإبداعية وقد يستدل إلى إضافات مبدعة وتطوير ابتكاري للعمل. ووفقًا لدراسة أجراها جيفري أندرسون من جامعة يوتا عام 2013، تُظهر فحوصات الدماغ أن النشاط متشابه على جانبي الدماغ بغض النظر عن شخصية المرء. أو طبيعة ما يقوم به.
النقد لا يسير دائماً بطريقة صحية بهدف تحسين العمل. بل قد تجد من ينطلق في نقده من آراءٍ تحاول إجهاض العمل والقضاء عليه بدلاً من السعي لتحسينه وتطويره. وهذا الأمر موجود لاختلاف البشر واختلاف طبائعهم. لذلك تطلب بعض المجلات من الباحثين قائمة بأسماء محكمين، لا يرغبون بأن يُحكموا أعمالهم لتعارض المصالح، وهذا الأمر الأخير اختياري. حيث إنه قد يصدر من بعض المحكمين آراءً أو نصائح غير منطقية او تحمل أخطاءً في المعالجة. وأذكر هنا رأياً لأحد محكمي كتاب يتجاوز الثلاثمائة صفحة في الرياضيات يغص بالمعادلات الرياضية، حيث طلب المحكم من المؤلف إعادة تحرير الكتاب مرة أخرى باستخدام برنامج اللاتيكس بدلاً من برنامج ميكروسوفت وورد. وكأنه يريد إجهاض هذا الكتاب وإنهاء مسيرته. ومن المفارقات الأخرى أن أحد المحكمين رفض تحكيم أبحاث أرسلت إليه، لغاية ترقية أحد الباحثين. وذلك لأن الخانات المطلوب منه تعبئتها لتحكيم الأبحاث ستجعل الباحث يحصل على الدرجة الكافية للترقية. والمحكم يرى أن الباحث لا يستحق الترقية.
** **
أ.د.عبدالعزيز سليمان العبودي - جامعة القصيم