« أتمنى أن أصاب بفقدان الذاكرة حتى أعيد قراءة حكايات
ألف ليلة وليلة واستمتع بها كما استمتعت بها في أول قراءة
ستندال: روائي وناقد فرنسي
تقنية إدجار آلان بو في حكاية ألف ليلة وليلتين لشهر زاد
دلف إدجار آلان بو إلى حكاية ألف ليلة وليلتين لشهر زاد من باب ما بعد الحداثة من حيث يدري ولا يدري، وعاث فيها إبداعاً جديداً من خلال تقنية الشك والتقطيع والهدم والبناء أو (التفكيكية)، فنصه الذي أعاد بناءه بعد تفكيك وهدم بعض أجزائه نصاً قابلاً لحمولات فنية ونصوص جديدة، وكأنه يؤسس لنظرية (سرد ما بعد الحداثة) وكأنه يدرك أن نص ألف ليلة وليلة خارجاً عن مؤلفه/ مؤلفيه أو مترجميه، فهو شارك بوعي كمؤلف وسارد جديد في زمن جديد مستعيناً بعدة ساردين من بينهم شهر زاد الساردة الأصلية، فما كتبه في حكاية (ألف ليلة وليلتين لشهرزاد) شهرزاد براء منه، فهو مزيج من التناول التاريخي والتخييل الذاتي أو ما يعرف برواية التخييل التاريخي أو رواية الميتاسرد Meta-Naration.وهو أحد خصائص ما بعد الحداثة السردية فتح إدجار آلان بو بابه على مصراعيه لمن جاء بعده من روائي ما بعد الحداثة في القسم الأول من هذه الدراسة أشرنا إلى تشكيك إدجار آلان بو في حكاية نهاية شهرزاد، وتهيئة القارئ لحكاية شهرزادية جديدة بنهاية أخرى مختلفة.
وفي هذا القسم نتابع استبطان إدجار آلان بو لحكاية شهرزاد في الليلة الثانية بعد الألف التي ابتكرها ليمتع القارئ بحكاية جديدة مختلفة.
يتابع بو الحديث عن شهرزاد (كبطلة مهيمنة، وشهريار المستمع المسكين أو المستسلم والموافق بل ربما الضحية) وهي تحكي قصة القط والفار التي أعجبته، يقول:
نص 6 «حل الليل، ولم تقم السيدة شهرزاد بوضع اللمسات الأخيرة على حكاية القط والفأر فقط (كان الفأر أزرق)، بل حتى قبل أن تعرف ماذا كانت ستفعل، وجدت نفسها مغمورة بعمق داخل نسيج الحكاية، مشيرة، (إن لم أكن مخطئاً) إلى حصان وردي (بأجنحة خضراء) كان يتحرك، بعنف، ميكانيكياً، وكان يُدار بمفتاح أزرق.
أعجب الملك بهذه الحكاية أكثر من إعجابه بالأولى.. وعندما حان الصباح قبل أن تصل الحكاية إلى خاتمتها (رغم محاولات شهرزاد إنهائها في الوقت المناسب قبل الإعدام) لم يكن ثمة من سبيل، مرة أخرى، لعدم تأجيل الإعدام، لمدة أربعة وعشرين ساعة. في الليلة التالية تكررت نفس الحادثة ونفس النتيجة؛ وظل هذا الأمر يتكرر هكذا ليلة بعد أخرى؛ ولم يجد الملك الطيب الذي حُرم بشكل لامناص منه من جميع الفرص للوفاء بنذره خلال فترة لا تقل عن ألف ليلة وليلة، أما عن طريق نسيان الإعدام كلية نتيجة لانقضاء الفترة الزمنية المحددة له، أو نتيجة لإخلاء نفسه من تبعات النذر (الحلف) بالطريقة المألوفة، (وهو الأمر الأكثر احتمالاً) أي نقض القسم كلياً. على أي حال، باعتبارها منحدرة مباشرة من حواء، وربما، كانت وريثة لسلال الكلام السبعة كاملة، التي نعلم جميعاً بأن السيدة حواء قد قطفتها من تحت أشجار جنة عدن، انتصرت شهرزاد في النهاية، وأُلغيت العقوبة التي كانت مفروضة على الجمال.
لأن، هذه الخاتمة (وهي نهاية القصة كما نعرفها من المدونات) هي، بلا شك، نهاية مناسبة وسعيدة بشكل مفرط، لكنها، لشديد الأسف، مثل العديد من الأشياء السعيدة، أكثر سعادة منها صحة، وأنا مدين كلية لـ»إيستسورنوت « للوسائل التي زودني بها لتصحيح هذا الخطأ. يقول المثل الفرنسي: «الجيد عدو الأفضل».
وبذكري أن شهرزاد قد ورثت سلال الكلام السبعة، كان ينبغي علي أن أضيف بأنها تعهدتها برعاية مضاعفة حتى صارت سبعة وسبعين». (ص3)
يحيل إدجار آلان بو السرد إلى الراوي مؤلف الكتاب، ويتحدث عن قدرة شهرزاد إقناع شهريار بإلغاء عقوبة الإعدام، لكنه غير راضٍ عن هذا القرار، مع بعض التهكم والسخرية، يقول:
نص 7 أختي العزيزة «قالت في الليلة الثانية بعد الألف، (أستشهد الآن بكلام أيزيتسورنوت حرفياً) «أختي العزيزة» قالت «بعد أن تم إلغاء عقوبة الإعدام البسيطة هذه، وألغيت بكل سرور هذه الضريبة الباهظة، شعرت بالذنب لارتكابي حماقة فظيعة جسيمة ألا وهي حجب النهاية الكاملة لقصة السندباد البحري عنك وعن الملك (والذي يؤسفني أن أقول، إنه يشخر الآن، وهو شيء لا يليق برجل مهذب مثله).
لقد مر هذا الرجل بتجارب ومغامرات عديدة أخرى، أكثر مما سردته عليك إلى الآن؛ لكن في الحقيقة، أني شعرت بالنعاس في تلك الليلة التي سردت فيها الحكاية، وقد أغواني ذلك باختصار الحكاية.. وهي جريمة لا تغتفر، أرجو من الله أن يسامحني عليها. لكن مع ذلك لم يفت الأوان لتصليح إهمالي وتقصيري الكبيرين. وما أن أقوم بقرص أذن الملك مرة أو مرتين لإيقاظه حتى يكف عن إخراج تلك الأصوات المزعجة (الشخير) سأشرع بسرد الحكاية لك وتسليتك (إذا أذن لي هو) بخاتمة هذه القصة الرائعة جداً». (ص 3)
واستمر بو في السرد يحكي عن السندباد البحري، يقول:
نص 8 «وبعد أن أكملت شهرزاد كلامها لم تشعر أختها، كما علمت من مطالعتي لأيزيتسورنوت، بدرجة عالية من الامتنان؛ لكن الملك، بعد أن تلقى عدداً كافياً من القرصات، قال أخيراً «أحم» ثم «همم». وعندما فهمت الملكة بأن هاتين الكلمتين (وهما كلمتان عربيتان بالتأكيد) تعنيان بأن الملك يصغي جيداً، وبأنه سيفعل ما بوسعه للتوقف عن الشخير، قامت الملكة، بعد ترتيبها لكل هذه الأمور حسب رضاها، بالدخول ثانية، وفوراً، في قصة السندباد البحري» (ص 5): يسرد إدجار آلان بو حكاية السندباد البحري كما وردت في الليالي المتعددة (...............)، ثم يطور من سرده ليهيئ القارئ للتحولات الجوهرية في الحكاية ويظهر شغف شهريار في حكابات السندباد ورغبته في متابعتها يقول بو:
نص 9 «عندما وصلت السيدة شهرزاد إلى هذا الحد، كما يروي لنا «إيزيتسورنوت» انقلب الملك من جانبه الأيسر إلى جانبه الأيمن، وقال: «من المدهش حقاً، يا مليكتي الغالية، أن تكوني قد حذفت، حتى الآن، هذه المغامرات الأخيرة لسندباد. هل تعلمين بأنني أجدها مسلية جداً وغريبة».
وبعد أن عبر الملك عن رأيه بهذه الطريقة، كما علمنا، واصلت شهرزاد الجميلة حكايتها بهذه الكلمات:
« واصل السندباد سرد الحكاية بهذه الطريقة للخليفة – «شكرت الرجل الحيوان على عطفه، وبعد وقت قصير طابت لي الإقامة على ظهر الوحش، الذي كان يعوم بسرعة عجيبة عبر المحيط؛ رغم أن سطح الأخير، لم يكن، في ذلك الجزء من العالم، مسطحاً أبداً، بل مدوراً مثل رمانة، بحيث كنا نسير، إن صح التعبير، أعلى التل أو أسفل التل طوال الوقت».
قال الملك «أعتقد بأن ذلك شيء فريد»
ردت شهرزاد «أبداً، إنه حقيقي تماماً»
تابع الملك «لا شك عندي في ذلك، لكن، رفقاً بنا وواصلي الحكاية».
قالت الملكة: «سوف افعل، واصل السندباد سرد حكايته للخليفة قائلاً: وهكذا واصلنا السباحة أعلى التل وأسفل التل، كما قلت، وفي النهاية، وصلنا إلى جزيرة، يبلغ قطر محيطها مئات الأميال، لكنها مع ذلك كانت مشيدة وسط المحيط من قبل مستعمرة من مخلوقات صغيرة تشبه اليرقات».
قال الملك «احم!» (ص 5)
يتقمص إدجار آلان بو شخصية السندباد ويتماهى معه لتغيير سير أحداث الحكاية عكس خط السير الذي رسمته شهرزاد في استراتيجيتها، مستخدماً أدواته الفنية والتقنية التي اشتهر بها في حكاياته المتعددة، ويظهر بداية استياء شهريار يقول في سرده:
نص 10: قال السندباد «عندما تركنا هذه الجزيرة.. (بالنسبة لشهرزاد، كما ينبغي أن يُفهم، فإنها لم تهتم بقول «احم» غير المهذب الذي أطلقه زوجها) وعندما تركنا هذه الجزيرة، جئنا إلى جزيرة أخرى، مغطاة بغابات من حجر صلد، صلد جداً بحيث إنها كانت تهشم إلى شظايا صغيرة أفضل الفؤوس التي كنا نحاول بها قطع تلك الأشجار».
قال الملك «احم!» ثانية؛ لكن شهرزاد واصلت حديثها على لسان السندباد، دون أن تهتم بما قال.
« وبعد أن تجاوزنا حدود هذه الجزيرة، وصلنا إلى بلد كان فيها كهف يغور لمسافة ثلاثين أو أربعين ميلاً في باطن الأرض، ويحتوي هذا الكهف على الكثير من القصور الشاهقة والفسيحة تفوق في عظمتها قصور بغداد ودمشق. ومن سقوف هذه القصور كانت تتدلى أعداد كبيرة من الأحجار الكريمة الشبيهة بالماس، لكنها كانت أكبر حجماً من الإنسان؛ ومن بين شوارع الأبراج والأهرامات والمعابد، كانت تتدفق أنهار كبيرة سوداء كالأبنوس، تعيش فيها أسماك بلا عيون».
قال الملك «احم!». ثم سبحنا في منطقة من البحر كان فيها جبل شاهق، تنزل من سفوحه سيول من المعادن الذائبة، عرض البعض منها كان يبلغ إثني عشر ميلاً وطوله ستون ميلاً؛ وكان ثمة هوة على القمة كانت تنبعث منها كمية هائلة من الرماد حجبت وجه الشمس تماماً من السماء، وأحالت النهار إلى ظلمة حالكة تفوق في سوادها سواد أشد الليالي ظلمة؛ بحيث عندما كنا على مبعدة مئة وخمسين ميلاً من الجبل، كان من المستحيل علينا أن نرى أنصع الأشياء بياضاً، مهما قربناه من أنظارنا».
قال الملك «احم!» مرة أخرى. (ص 5).
... ... ...
هوامش:
-- Poe ، Edger Allan.THE THOUSAND-AND-SECOND TALE OF SCHEHERAZADE.1850.
file:///C:/Users/Owner/Downloads/the-works-of-edgar-allan-poe-054-the-thousand-and-second-tale-of-scheherazade%20(2).pdf
- علي سالم، أدغار ألان بو - حكاية شهرزاد الثانية بعد الألف، (انطولوجيا السرد العربي، الرابط: ht tp://alantologia.com/page/17234/
- تم الاعتماد على ترجمة الأستاذ علي سالم مع بعض التصرف.
- يونس، محمد عبدالرحمن، حكايات ألف ليلة وليلة تتمازج في ثقافات الأمم والشعوب، القافلة ـ فبراير 15 ـ 2018، رابط
https://www.alarabiya.net/qafilah/2018/02/15/%D8%AD%D9%83%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A3%D9%84%D9%81- -
** **
- ناصر محمد العديلي
Chmq2012@gmail.com