من الشعراء من كانت له على رأس كل عقد من العمر قصيدة، ومن أشهرهم المعمَّر لبيد بن ربيعة؛ وهو القائل حين مضت له سبع وسبعون مخاطباً نفسه، وأملاً في أن يكمل الثمانين:
قامت تشكَّى إليَّ الموت مجهشة
وقد حملتك سبعاً بعد سبعينا
فإن تُزادي ثلاثاً تبلغـي أملاً
وفي الثلاث وفـاء للثمانينا
فلما بلغ مائة وعشراً قال:
أليس في مائة قد عاشها رجل
وفي تكامل عشر بعدها عمر
فلما بلغ عشرين ومائة، قال:
ولقد سئمت من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس كيف لبيد؟
أصبح السؤال تقليدياً لا ينتظر السائل جوابه.
وأنشأ الشاعر محمود الوراق قصائد في الأربعين وفي الستين وفي الواحدة والسبعين. يقول من قصيدته بعد ستين عاماً:
أمن بعد ستين تبكي الطلولا
وتندب رسماً وانياً محيلا
وقد نجَّم الشيب في عارضيك
وجر على مفرقيك الذيولا
وفي الواحدة والسبعين وصف ما فعلت به هذه الأعوام:
مني السـلام على الدنيا وبهجتـها
فقد نعـاها إليّ الشيب والكِبَــر
لم يبـق لي لـذة إلا التعجب من
صرف الزمان وما يأتي به القدر
إحدى وسبعون لو مرت على حجر
لكـان من كبـره أن يفلق الحجر
ومن الشعراء الذين اعتادوا نظم القصائد في كل عقد أسامة بن منقذ، وقد قال لما وصل السبعين مذكراً بأن السبعين مؤذنة بقرب الرحيل:
وأسمعتك الليالي في مواعظها
أن ابن سبعين من وردٍ على قربِ
وفي الثمانين قال مشتكياً من ضعف الرِّجل واضطراب اليد، وأحزنه أنَّ يده لم تعد تستطيع حمل القلم، وما أصعبه من موقف على الفارس الكاتب:
مع الثمانين عاث الضعف في جلدي
وساءني ضعف رجلي واضطراب يدي
فاعجب لضعف يدي عن حملها قلما
من بعد حطم القنا في لبـة الأسـد
ومن شعراء العقود حسين سرحان فعندما بلغ ثلاثين عاماً قال:
ثلاثون عاما.. يا لطول بقائيا
ويالمقامي فارغ النفس ثاويا
تعاظمتها لا أستزيد بها الهوى
وأهدرتها .. أيامها واللياليا
وأوسعتها جداً ولهـواً وحكمة
وجهـلاً وتذكاراً لها وتناسيا
وفي الخمسين يقول:
أخمسون عاماً قد طويـت كأنها
منام توشـيه الرؤى وكذابـها
وقد برمت نفسي علائل عيشها
فكيف وقد ولَّتْ وأقبل صابها
وفي الرابعة والخمسين يقول:
وفي أربع من بعد خمسين حجة
غِنًى لو يظل العمر بالعيش غانيا
عليـها بلاويها وفيـها نعيمها
ومنـها المنـايـا إذ تدس الأمانيا
وغئيت في ليلي أسلي حشاشتي
فلما استبان الفجر أصبحت بايا
وفي الستين يحس بقرب غروب شمس نهاره فيقول:
كأني وقد شارفت ستين حجة
وقد طفلتْ شمس الحياة لتغربا
هواء أشتته السنون وكاذبت
عليه فلم يذهب مدى العمر مذهبا
وللشاعر عبد الرحمن بن عبد الكريم العبيِّد قصيدة في كل عقد منذ أن بلغ الثلاثين. يقول في قصيدته (من وحي الثلاثين):
الثلاثون لم تـزل صورة منه تأتلق
قد طوينا شراعها لفؤاد به خفق
طي أحلامنا التي تتسامى بلا قلق
غير بقيا حزينة من نشيد قد انعتق
ومن وحي الخمسين يقول:
ذهب الشباب وما درى السمار
فكأنمـا هـو كوكب سـيار
أبصرت منـه أفوله فتشابهت
في عيني الآصال والأسحار
ويمضي في القصيدة يشيد بتمسكه بالشعر ومرافقته له ليسجل حياته، فهو يبني بالشعر صروحاً، ويتخذ بسببه أصدقاء. إن الرياض كلها تجف إلا رياض الشعر:
كل الرياض تجف من أوراقها
ولسوف تذوي تلكم الأزهار
إلا رياض الشـعر فهي ندية
تزهـو بها الآراء والأفكـار
وفضلاً عن القصائد العَقْدية هذه فهناك لمحات متناثرة تأبى إلا أن تظهر في كل مناسبة، ففي زيارته إلى مرابع صباه في (الجبيل) وبعد تذكر تلك الأيام؛ قال:
أتيتها وفؤادي في تلهفـه
والشوق يدفعني والحب يشجيني
أسائل الدار عن روض وعن ولد
كم كان يجمع طاقــات الرياحين
واليوم خالطه شيب بمفرقـه
يجر مـن خلفه أعباء خمسين
لكنها أنكرتني عندما رمقت ْ
تلك التجاعيد في وجهي تعريني
ولعل الدكتور غازي القصيبي - رحمه الله - من أهم شعراء العقود وأشهرهم، ولذا خصصت له المقالة التالية - بإذن الله -.
** **
- سعد عبدالله الغريبي