إعداد: محمد هليّل الرويلي - جابر محمد مدخلي:
الشعر ميراث وتركة إبداعية متوارثة، وموهبة عظيمة لا يمكننا الغفول عن عناقيده التي تتدلى من بلاغته، إذ هي التي تحرك فينا ما كان راكداً قبل سماعه. قرآننا الكريم وهو أعظم الكتب السماوية وأخلدها وأكثرها تأثيراً في النفس البشرية، أفرد للشعراء سورة كاملةً لا بد وأنهم -حقاً- لديهم أمر خاص، واستثنائي.. ولأن الشعر وزارة الإعلام لدى العرب، والسلاح الذي يجابهون
به بعضهم البعض، وهو الرسالة التي يبعثونها للتعبير عنهم، وعن رؤاهم، وقراراتهم، ووجهات نظرهم جاءت من خلال كل هذا أهميته، ومركزيته في حياة الإنسان العربي.
وبالعودة للوقوف على الشعر الجاهلي، نجد من القصائد والرواة والشعراء من يثبتون بين حين وآخرحقيقة القرناء ومن أشهرهم: «لافظ بن لاحظ وهاذر بن ماهر، ومسحل السكران بن جندل.. وغيرهم، منذ ذلك الزمن حتى يومنا -هذا- الذي برز فيه شعراء على جميع الأصعدة والمشاهد.
وبين كل هذا وذاك تتوالد لدى الباحث والمهتم بعالم الشعر والشعراء تساؤلات كثيرة تكاد تستوقفه وهو يفتش عن اختلاف الشاعر عن غيره من أرباب الفنون الأخرى -وهو حقاً كذلك- فهل اعتقاد الشعراء أنفسهم بأن ملهمهم جان خاص بهم، جعلهم يتمسكون بحقيقة أنّ لهم قريناً؟ وإن كان بين الجن شعراء لمَ لم يوصلوا شعرهم عن طريقهم وليس عن طريق الإنس؟ وهل كان الشاعر -حقًا- غير قادر على إكمال قصيدته دون استعانة؟ ثم ألا يُلفت الأنظار ما كان هذا الادعاء بالاستعانة بالجن عند النساء الشواعر؟ إضافة إلى ما ذُكر عن قصص (التوابع والزوابع)، هل كان لها إسهام في تحريك المشهد الشعري بين الجانبين! نقف أمام هذه القضية التي تُفتح دائمًا ولا يتم إغلاقها بإقناع تام؛ لهذا نحن بصدد هذا الملف -والرحلة- ومع نخبة من المفكرين والنقاد العرب المتخصصين «لكشف الستار لما يختبئ خلفه».
* * *
وقائع رحلتنا إلى عوالم لا ترى
كلامك صحيح يا جابر، «كيف السبيل ليصدقنا الناس؟ فما نحن مخرصان، ولم يشهد أحد في العالمين أننا طرقنا أبواب العرّافات ولا استسعطنا أبخرة عند الكهنة والمشعوذين! ولم نزعُم رجمًا بالغيب، وحدّ علمي أن علمك بـ«التنجيم» كعلمي بجلب الحبيب واستخدام الجَان.
قال: علينا إذاً أن نُقدّم مادتنا - في هذا الملف - مشفوعة بـ(الصّوت والصورة)، نوثّق رحلتنا إلى عالم الجن عبر (أشرطة الفيديو)، وإلا فإننا لن نتمكن من إغلاق أي باب في وجه كل متربص حاقد. إن لم نفعل ذلك سنكون مثارًا للسخرية! خصوصًا أن الأمر متعلق بمشاهد ولقاءات سنخوضها في عوالم الجن، وكما تعلم فإنه سيكون هناك من يشكك في رحلتنا، ويضرب بمصداقيتها عرض الحائط، أخماسًا بأسداس؛ سائلًا الله لعقلينا السلامة والصّحة التامة، وثبات فؤادينا. قلت: فليكن. واتفقنا على وضع مخطط الرحلة وخط سيرها بدءًا من يوم الثلاثاء 22 ديسمبر 2020م.
وفي المكان واليوم المحدد: حضرنا وحضر معنا قرينانا (عسيجدان) قرين جابر (ومعشدان) قرين صاحبكم، وهما بالمناسبة أولاد خالة، وينتميان لقبيلة واحدة هي (آل صويخات) القبيلة العربية الجنّية العريقة الممتدة التخوم والآفاق، القاطنة على امتداد الوطن العربي.
بدأنا الرّحلة، وكان اعتقادنا الأول مبنيًا على أنّ (وادي عبقر) نقطة تجمّع (شُعراء الجِن) المانحين القصائد العصماء هناك فقط؛ لكن حين جال وصال بنا الجنيان لأبعد من ذلك الموضع؛ تغير كل شيء، فالتقينا بالجِنّي المُتّهم بقتل زعيم الأنصار «سعد بن عبادة» رازحًا في زنزانته، بعد الوشاية به في حادثة مقتل الرجل. تحدثنا معه وأقنعنا الجنيّ أنه ليس من قتل سعدًا! ومن زنزانته نقلنا القرينان - عسيجدان ومعشدان - مطوفين بنا البلدان والأمصار حتى وصلنا أرض مصر مرورًا ببابل العراق، وهناك أطلعانا على جميع المشاهد وكل الصور والوثائق المكتوبة والمراسلات المُقدمّة لسَحَرة فرعون يوم الزينة، يوم جُمع المردة والسحرة، ويوم أن عَلّمَا وقالَا: لا تكفُر. ومن دون أي أختام للمرور، ولا جوازات سفر، وبطريقة قبل أن يرتد إلينا طرفانا إذا بنا نقف على أسرار «الهيكل» والخرائط مفردة أمامنا.
كما أطلعانا كذلك على المسودات الأولى لدواوين الشعراء الجاهليين، وكل ما كتبه شعراء الجن في صدر الإسلام، والدولة الأموية والعباسية - وكم سَخِرنا وسَخِرَ معنا عسيجدان ومعشدان ونحن نستمع للقصائد الركيكة من شعر الجن، في عصر ضعف وانحطاط الأدب، الذي شهدته الساحة الجِنّية، الموازية بحساب توقيتنا الإنسي «عصر انحطاط الأدب» العربي - ثم استمعنا لمختارات من أعظم قصائد العصر الحديث.
وأثناء ذلك، كانت «كاميرا» عسيجدان توثق رحلتنا مصحوبة بـ«شريط فيديو» معشدان - بطلب سابق منا - داخل المكتبات العامة والخاصة بقبائل الجن، راصدًا زياراتنا لأنديتهم الأدبية، ومراكزهم الفكرية، والبحثية، وفي «كليات الآداب» وصالوناتهم الأدبية، إضافة لمقابلاتنا الشخصية مع فحول شعرائهم.
زمن يا شعراء الجن. من أجل هذه القضية: اتخذنا كل التدابير والإجراءات الوقائية، والقانونية، في عوالم الجن وقد سهل مهمتنا إضافة لقرينينا فحل فحول شعراء الجن: «طهموز المنجني بيطي» وأمير شباب الشعراء «نامان فاهي بيطي» وقد أحسنا صنيعًا، دعوة عدد من أدباء الجن ومثقفيها. وللأمانة الصحفية أجد لزامًا علي ذكر ما قام به كل من «خيطي / بيطي» إضافة للجهود الملموسة التي قام بها مدير تحرير صحيفة (مجلة فاصوليا) الأدبية «هبيد بن هادر» وتفضله باطلاعنا على الأعداد القديمة من مجلته، وصفحات أخرى منشورة في قسم التحقيقات.
بالمناسبة قد تظنون أن هبيد هذا هو الشجاع الذي ظهر محترق الجنبين في الرمضاء، وأسقاه من الماء «عبيد بن الأبرص»، فأصبح ملهمه كما تقول بعض الروايات؛ لكنه ثبت لنا أنه غيره، وأنه مجرد تشابه في الأسماء لا أكثر، غير أنه التقي مع «هاذر بن ماهر» جني «النابغة الذبياني» في جده الخامس، ولم يجمعه بصاحب حسان «الشيصبان» سوى مصاهرة، هذا ما أكده جمع من الأدباء الجنيين الموثوق بعلمهم ممن تقابلنا معهم.
«استنوق جمل الجن؟» نظر إليّ شزرًا - ولولا مخافته من أن يُجلِسه صَاحِبانا عسيجدان ومعشدان مبرك الحق في أعرافهم القبلية - لرماني بمنسأته التي يتكئ عليها، تلك التي قد ورثها من جده وبحنق أجاب: «سريالية أشعار الجن تَرُوج بين رجالكم فقط ! إذ لم يسبق لجِمالِنا الاستنواق، وقد تتساءل «أتخَلّفتْ جِمال وخُيول وبِغال وحمِير جميع قبائل الجن، وفشلنا نحن في محاولات التخفي التنكر والظهور أمام واحدة من شويعراتكم وتقديم واجب إهدائها قصيدة عصماء؟! أتصدق أننا فشلنا صّبَ شِعرنا في أذنيها وهزَّ قريحة ابنتكم الحسناء - لو أردنا ذلك لفعلنا - اتق الله يا محمد! لو ظهرنا على فتياتكم، أو نسوة من نسائكم، لضجت مستشفياتكم النفسية! وعياداتكم الجلدية وأقسام الأنف والأذن والحنجرة - لو ظهرنا بالشِعر فقط - أما كفاكم الحشود على أبواب الرقاة المُدّعين بصقًا على الخدود والصدور! وقناني الماء والزيت - زعمًا أننا - سكناهن أو تلبسنا إحداهن! ما ضاقت يا رجل وسُكنانا عامرة! فغيَّر جابر مسار الحديث: إذاً فما بال أقوامنا يزعمون أن أقوامًا من شياطينكم يلهمونهم الشعر، وأن من يقوم بهذا الدور منكم شاعرٌ فحلٌ، بارعٌ قادرٌ على مسكوكه بعويص القوافي؛ حتى زعمت العرب أنّ الشعر «نفث شيطان» أو رقيه.
عاود صاحب المنسأة التحدث - وكان هذه المرأة هادئًا - اسأل «ربعك!» وهم من زعموا أن هذه الأسماء لنا، والحقيقة أنها لا توجد في قبائلنا قاطبة إطلاقًا. ثم ألا ترى أنكم إذا افتريتم فرية على أحدنا باسمه، ولم تُعرِّفوا شيطان الشاعر أو إذا أردتم الإجمال طلسمتم وصفه، فتقولون: لفلان من الشعراء نجيّ من الجن أو الشياطين، بمعنى صاحب مِنّا يُناجيه ويحادثه، هذا ما يصنع شعراؤكم ويذيعونه، وتصدقونهم فترتفع قيمتهم ومنزلتهم الشعرية، كون الجن عندكم تأتي بما لا تأتي به الإنس. أما شاع - يا جابر - عند العرب مُستجد الشعر وغيره «بوادي عبقر» فقط لأنه من أودية الجن - بزعمكم - وعبقريتكم خلصت أن تشتق «العبقرية» في لفظكم وأدبكم. قال جابر «بلى»، وتابع الحديث وهو يدير عينية الشازرة ويقلبها نحوي: أما إذا تفَتّقَت عبقريتكم - يا رويلي - أكثر، فستزعمون أنكم تُفرقون بين شعرائنا الجان من حيث جودة الشعر وقوته، فزعمتم أنّ شاعرنا «الهوبر» يقول أجود الشعر وأن الشاعر «هوجل» لا ينظم سوى أفسده!
من الغيظ، كدتُ ليلتها إنهاء الرحلة. لكن صديقي جابر كان أصبر وأدهى ودعاني للتصبر مُسرًا: «ما جئنا إلى عالم الجن، وما قطعنا المسافات مع صاحبينا عسيجدان ومعشدان؛ ليستفزنا هذا من على منسأته»، وخفض من صوته أكثر وتابع مناجاته «ثم إننا لم نحصل منهم بعد على الصور وشَرائِط الفيديو»؛ لكن الجن سمعوا كل ما أسر به صاحبي ومناجاتنا، وردّوا وكأنهم على قلب جنّي واحد وكان مفاد جوابهم: أما الأشرطة وصوركم أثناء رحلتكم بعالمنا تذرعون سهوبنا وريضاننا وتجلسون سامرين وسط منشآتنا الثقافية وصالوناتنا الأدبية فلا نستطيع - حاليًا - تزويدكم بها أو نسخة منها، دون الحصول على إذن مُسبق من (وزارة الإعلام) الجنية، ثم إن هناك سببًا آخر يحول دون حصولكما على مُرادكما، ما لم نعمل على إيجاد حل له وهو (الصيغة التوافقية) في التعاملات، بيننا وبينكم في الجانب التقني. وقد يستغرق الأمر إنجازه بحلول عام 2099، وربما قبل هذا الموعد إذا عززت وزارتا الثقافة والإعلام تعاونهما وجَرتْ تَرسِيَة المشروع، إضافة إلى أهمية وجود توقيع «مذكرة تفاهم» وتعاون مشترك، بين (رئيسيْ اتحاد شعراء الجن والإنس)؛ سنزودكم بكل ما طلبتم من صور وأشرطة فيديو، وعلاوة على ذلك سنزودكم بالديوان الشعري للشاعرة.
... ... ... ...
- محمد هليل الرويلي
* * *
عجيب!.. لم يجعلوا للمرأة شيطانا
تكاد كل الأمم القديمة تتفق على نسبة الشعر إلى عالم خارج العالم المشهود، لأنه رأوه أكبر من قدرات البشر العاديين، وقد اختار العرب أن ينسبوه إلى الجن؛ لأن عالم الجن غامض مهيب، وعندهم من القدرات والخوارق ما ليس عند الإنس.
ثم إن العرب تمادوا في ربط الشعر بالجن فجعلوا للجن شعراء، وزعموا أنهم يسمعونهم ينشدون الشعر، وجعلوا للشعر المسموع منهم خصائص وسمات، فبعضه خرج عن معهود القول عندهم، كاتفاق لفظة القافية (في خبر حسان مع السعلاة)، أو صعوبة نطقه مثل البيت المشهور (وقبر حرب بمكان قفر* وليس قرب قبر حرب قبرُ) فقد زعموا أن من الدلائل على أنه من شعر الجن أن أحدًا لا يستطيع نطقه ثلاث مرات دون أن يتتعتع!
فالمسألة إذن ادعاء وزعم لإعطاء الشعر عالمًا غامضًا ومصادر غيبية مجهولة، وليس له من الحقيقة وراء ذلك شيء. وكلّ ذلك متصلٌ بفكرة الإلهام التي وجدت حظوة في آداب كثير من الأمم، ولا شك في أن تمسُّك العرب بهذه الفكرة -بما نسبوه من الشعر إلى الجنّ- «ناجمٌ عن اعتقادهم بأن العبقريةَ تكمن في خارج إطار الوجود البشري، وأن الافتنان والإبداع مستمَدّان من عالم آخر يفوق قدرات الإنس.
والعجيب أنهم لما جعلوا للشعراء شياطين يلقون عليهم الشعر، لم يجعلوا للمرأة شيطانًا؛ وهذا متصل بفكرة الفحولة في الشعر؛ فالشعر في رأيهم ذكر، والمرأة بعيدة عن أن تتصف بذلك. بل إن بعضهم أنِف للمرأة أن تقول الشعر، وكلمة الفرزدق مشهورة في هذا المقام لما قيل له: فلانة تقول الشعر، فقال: (إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فاذبحوها). مع أنه يمكن القول برأي مضاد لهذا: وهو أن المرأةَ أقوى من الرجلِ قريحةً، فهي لا تحتاجُ إلى مُعين. ورأي بشار في شعر الخنساء -وفيه صراحة ومجون- يكشف أنه كان يُكبِر شعرها ويجعلها فوق الرجال.
والمهم أن المسألة -مع كونها ادعاء- أسهمت في كشف تصور العرب للشعر، وأمكن ربطها بنظرية الشعر عندهم. ومن المحقّق أن لها دلالاتٍ عند علماء الإناسة (الأنثربولوجيا)، وهي تفسِّر بعض الأحداث، وتومئُ إلى ضروبٍ من التفكير الشعبي، وقد تكشف شيئًا من التبادل الثقافي والحضاري بين الأمم.
وللشعراء أنفسهم يدٌ في صناعة هذا الشعر؛ ليتملَّكوا به ألبابَ الناس، ويورّطوهم في تصديقِ الزعم بأن للشاعر رئيًّا، ومن خلال تمكين هذا المفهوم يتنصّلون من التبعات، ويحرزون كثيرًا من الغايات، كبلوغ المآرب الدنيوية، وعلوّ المكانة في مقامات العشيرة ونحو ذلك.
... ... ... ...
- أ.د. عبدالله بن سليم الرشيد
* * *
القرين قضية إنسانية كبرى
قضية القرين الشعري الذي عُرِف عبر التاريخ الأدبي، فلا أراه سوى تابع لقضية إنسانية كبرى تعود إلى مستوى تساؤل العقل البشري عن عمّا وراء الطبيعة، وفكرة (الجنّ) أنموذج لذلك. إذ التفكير عملاق بشريّ يقفُ أمام عملاق أزليّ من اللامرئي واللامعلوم سوى بالنقول النصية من أديان وفلسفات كلامية، ويوازي هذا ما نراه من اتّجاه العلم في محاولة الوصول إلى كل ماهية..
ومن يدري، فقد يصل العلم بعدنا إلى أن ما نطلق عليه جنًّا ليس سوى نوع مايكروبي أو فايروسيّ يؤثر على حياة الأفراد سلبًا أو إيجابًا.. فالجنّ في التفكير الفلسفي المجرد البحت غير معروف، وليس سوى مصطلح يشبه بقية المصطلحات التي تحتاج إلى تحرير عملي مادي. وهذا الرأي يخص الخاصّة من أهل الفكر الفلسفي المستقل، ولا يخضع للإيمان بالتسليم. ومن هنا نجد أن فكرة اللجوء الإنسانيّ إلى تفسير الظواهر والقدرات التي يؤتاها قوم عن سواهم، هذا اللجوء طبيعة بشرية ناتجة عن ضعفنا أمام تفسير الظواهر والقدرات.. وتجد هذا في كل الأمم مع الاختلافات في مفاهيم ذلك والنسبية فيه..
ومن ذكرتهم وعرفناهم من الشعراء وتوابعهم وزوابعهم يدخل ضمن هذا الإطار، ويجد كل منهم ذاته مُشْبَعةً اجتماعيًا بنظرة الناس إلى قدراته على أنها بتابع وزوبعة. وأذكر أنه كان في قريتنا معالج يدّعي بأنه يسخّرُ قبيلة من الجنّ يدعَون (آل زوبع)، وأنه إذا ناداهم خلعوا من أشجار الجبل شجرًا بعروقه و(تَغَرَّرُوا) به، أي وضعوه كالعصائب على رؤوسهم ثم جاءوه، وصدقه الناس، وعرفنا في ما بعد أن (زوبع) إحدى القبائل الشهيرة في العراق. ومن المعلوم أن فنون السحر البابلي لها دور في نشر ثقافة السحر والجن ومنها كانت كتب كثيرة قبل الإسلام وبعده، كما أن انتحالات كثير من الشعر الجاهلي كانت صيغت هناك. ونعرف لدينا كثيرًا من الشعراء الشعبيين يدعون القرائن والقرناء، ومنهم من كنِّيَ بقرينته مثل (ابْرَ عشْقَهْ)، عشقة هي قرينته، ومنهم الهازمي، وحمود الشريف، فلكل منهما قرين معروف لدينا حسب ادّعائهم الذي يؤمن به عامة الناس. وحقيقة الأمر أنه ليس سوى قدرات لغوية وغنائية لحنية عالية خاصة يحملها مثل هؤلاء، ومثلهم في ادّعاءاتهم مثل الساحر الذي يدّعي تسخير الجن ويؤمن به الناس.
... ... ... ...
- إبراهيم طالع الألمعي
* * *
من المدهش أن يتجاوز صراع الإنسان العربي مع بعض المخلوقات العجيبة العداوة والحروب إلى المودة والتصالح
الأكثر تأثيراً فينا (الشعر) يحرك ما كان راكداً، ويعرج بنا إلى مشاعر لم نكن بالغيها إلا بشق الأنفس.. ولأننا نجد من يثبتون بين حين وآخر حقيقة القرناء! وجهنا لهم الدعوات ليكتبوا، واستجابوا مشكورين، هنا محاور أخرى في الملف، هي بحق تساؤلات كثيرة ومحيرة لكن رؤاهم تحيط بها.
.. مسلطاً الضوء على محور جديد مدهش، تجاوز العداوة والصراع إلى نوع من الأنس بلغ حد الزواج كما وصفه رئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي الناقد د. خالد التوزاني، وقال: لمن المدهش أن يتجاوز صراع الإنسان العربي مع بعض المخلوقات العجيبة العداوة والحروب والصراع، إلى نوع من الأنس والمودة والتصالح، بلغ حد الزواج من الكائن العجيب وإنجاب الذرية منه، تعبيراً عن عميق الألفة بينهما، حيث تذكر بعض القصص زواج عمر بن يربوع بن حنظلة بالسعلاة (وهي أنثى الغول) التي بقيت معه زمناً طويلاً، وولدت منه، حتى رأت ذات ليلة برقاً على بلاد السعالي، فطارت إلى أهلها الذين كانوا قد زعموا له، أنه سيجدها خير امرأة ما لم تر برقاً، وكانوا يزعمون أن السعالي، تمقت البرق فتفر منه. ويبدو أن العلاقة الحميمية بين الإنسان والكائنات العجيبة والخارقة (السعلاة، الجن..) تعبر عن تطلع الإنسان إلى عالم الكمال الحسي في الوصال الجنسي، خاصة عندما تعجز الزوجة الآدمية عن إشباع مثل هذا الطموح الشبقي، الذي لا يتطلع إليه إلا الأبطال من الشعراء والفرسان، ويعبر عن هذا الطموح قول الشاعر:
ثيّب إن هَويتُ ذلك منها ومتى
شئت لم أجـد غير بِكْر
بنت عمرو خالها مِسْحَلُ الخي
وخـالي هميم صاحب عمرو
وتبيّن كثرة هذا النمط من القصص أن توظيف الجن في الأدب العربي، كان شيئاً مألوفاً ومتداولاً بين الأدباء والشعراء، وخاصة حكايات العشق بين الثقلين؛ فقد تضمنت حكايات «ألف ليلة وليلة» نماذج من عشق الجن للإنس، وعشق البشر للجن، وكذلك «سيرة سيف بن ذي يزن»، التي تتكرر فيها قصة «الجان الذي يخطف البنات الإنسيات لأنه يحبهن، ثم يخلصهن البطل..». ولعل ذلك - يتابع التوزاني - يذكرنا بقصص زواج الآلهة والبشر في الأساطير الإغريقية القديمة، مما يمكن أن نستنتج من خلاله، أن توظيف الجن في الأدب العربي، يعكس أحلاماً قديمة لتطلعات الإنسان، في تخلصه من بعض العوامل التي تعوق حصوله على ما يريد، فبمساعدة الكائن الخارق، أصبح ممكناً تحقيق كل الأحلام. ولذلك، لا عجب أن يكثر الحديث عن العلاقات بين الإنس والجن، عند الشعراء خاصة، نظراً لكونها علاقات عجيبة تخرق المألوف والمتعارف عليه بين الناس، تفنن القصاصون في إبرازها وتناولها، وقد عكس الإبداع الأدبي ذلك الطموح الشبقي في الحصول على ما هو غير محدود وغير مرتبط بطاقات البشر وإمكاناتهم، حيث شكّل حضور المخلوقات العجيبة أحد العناصر المكونة لبناء القصيدة العربية، وعَكَسَ هموم هذا الإنسان وانشغالاته في أدقّ تفاصيلها ونتوءاتها الداخلية، فليست «فكرة الغول أو الجن» سوى تجسيد للقلق الوجودي والخوف الإنساني الكامن في أعماق الإنسان من أخيه الإنسان، الذي يتحول من عطاء المحبة والخير، إلى عطاء الأذى والشر. ومن ثم، لم يكن حضور العجيب في الإبداع العربي، ترفاً جمالياً أو تشكيلاً فنياً لدفع الرتابة والملل، ولا تمرداً على الذات والمحيط كما هو الشأن عليه في العجائبي كما ظهر في الغرب، بقدر ما كان تعبيراً عن أنماط من الوجود القلِق، وتجسيداً لآمال كبيرة، لم تقدر حواجز الواقع الطبيعي وحدوده على تلبيتها، فكان تدخل الكائنات فوق الطبيعية، «التي تحقّق معجزات يعجز الإنسان عن أدائها»، أمراً ضرورياً لإعادة التوازن والاستقرار إلى حياة الإنسان، وأيضاً التطلع إلى آفاق أرحب من الحياة الأخرى التي تشبه الجنة.
العربي عوَّل على الجن في مواجهة الشدائد!
ويضيف الدكتور التوزاني: يبدو أن اهتمام الإنسان العربي بالجن، والتعويل عليه لمواجهة بعض الشدائد والمحن، راجع لتلك التمثلات الذهنية تجاه قدرات الجن غير المحدودة، ومجالات تدخله غير المنتهية، وأنه يمكن أن يقدم العون للبشر في تنفيذ بعض الأعمال الصعبة، ويخبرنا القرآن الكريم أن الله - عز وجل - سخّر الجن لسليمان - عليه السلام - كما قال تعالى: «يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ» ، وقوله عز من قائل: «وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِير». حيث فتحت هذه الآيات أمام الإنسان العربي باب الأمل في إمكانية توظيف قدرات الجن الخارقة، غير أن المرء ينسى أن للجن مجالات تدخّلٍ ضيّقةٍ مرتبطة ببعض الأنبياء والمرسلين، وأن للجن عالمهم الخاص الذي لا صلة له بعالم البشر.
هكذا انزاح الجني من المشهد
وحول العصر الذي بدأت فيه هذه الظاهرة - إن جاز التعبير - وضَّح أ. د. عبد الله بن سليم الرشيد، قائلاً: النظر المتأني في ظاهرة نسبة الشعر إلى الجن يكشف أنها خفتت تدريجياً حتى غابت أو كادت، وهذا الغياب بعد الحضور العاصف يفضي إلى القول بأن العلاقة بين الجنّ والشعر كانت في تفكير العرب محدودة بعصر (جاهلي) وما وليه من زمن ليس بالطويل، فلما أشرق نور الإسلام، وبسطت الحضارة أردانها، واختلطت العرب بغيرها، انزاحت الجنّ عن المشهد؛ إذْ لم يعد لها مكان في الخيال الجماعي؛ لأنها مرتبطة بالجهل والغموض وعالم الكُهّان. وكلّ أولئك مخالفٌ للإسلام وقيمه. وهي كذلك مرتبطة بالتفكير البدائي الذي يتملّص من الإقرار به الشاعر والناقد والإخباريّ معاً.
ووقع ذلك الغياب متدرِّجاً، إذ خفتت نسبة الشعر إلى الجنّ أولَ الأمر، ثم غاب القولُ بوجود رئيٍّ أو شيطان للشاعر، ومَن نظر في أخبار الشعراء وتراجمهم بعد القرن الثاني لم يقف على شاعر يتحدث عن شيطانه إلا دعابةً أو رمزاً. ولم يُذكر شياطين للشعراء المتأخرين كأبي تمام والبحتري والمتنبي إلا في مقام نقدي تالٍ لزمانهم، وهذا ما فعله ابن شُهيد في رسالة (التوابع والزوابع)، وهو لم يكتفِ بشياطين وتوابع للشعراء، بل ابتكر للكُتّاب توابع.
وبعض من ذُكر عنه شيء من ذلك،كابن دُريد، جيء بذكر شيطان شعره في المنام، وكأن الإحالة إلى المنامات والأحلام نمطٌ مختلفٌ يتخلّص فيه المنشئ من الادّعاء العريض، ويسلم من القالة فيه والملامة.
ومن القليل الذي بقي من هذه الظاهرة ما نُقِل من أخبار العامّة وشعرهم الملحون إلى زمن قريبٍ جداً، ومن ذلك ما ورد في خبر علي السنانيّ من أهل المجمعة في نجد، في أواخر القرن الرابع عشر الهجريّ، من أنه نام في كهفٍ بأحد الشِّعاب، فسمع من الجنّ أبياتاً، منها - وهي من الشعر الملحون -:
يا ذا الحمامْ الليْ لِهِنْ لَعلعَهْ
فوقْ الجرايدْ والخلايقْ نيامْ
باللهْ عليكْ الصوتِ لا ترفعَهْ
أزعجتْ خلٍّ سابحٍ في المنامْ
وتابع الدكتور الرشيد، وهذا يصدّق الحكمَ بارتباط هذه الظاهرة بالأميّة والبداوة والبعد عن الحضارة، ذلك أنه كلما قلّ حظّ المجتمع من العلم والتحضّر شاعت فيه هذه الأساطير، وتُقُبّلت. ولا يعني هذا سلبَها قيمتها الاجتماعية والثقافية، وأهميتها في سبر طرق التفكير، وصلتها المهمة بتتبع نموّ المفاهيم المتصلة ببعض ضروب الإبداع. ثم إن ما سبقَ بسطُه يكشفُ صلة هذه الأخبار والشعرِ بالثقافة الشفهيةِ، التي من طبيعتِها أن «تسردَ قصصاً عن الفعلِ الإنسانيِّ من أجل أن تُـخزّنَ، وتنظِّمَ، وتوصلَ كثيراً مما تعرفُ». وقيمتها اليوم في أنها ثقافة شعبية، يُستَدلّ بها على قيم اجتماعية، أو نزَعات فنية، أو اعتقادات جاهلية.
فقد الجن
وطالبت الباحثة إيمان الحازمي بتطوير الدراسات للوقوف على دلالات ووظائف هذا النوع من العجائبية قائلة: إن وجود هذا النوع من العجائبية في التراث الأدبي يحتاج إلى تطوير الدراسات النقدية، والحفر في متون المدونات؛ للوقوف على الوظائف والدلالات وربطها بالعلوم الإنسانية؛ للوصول إلى النقاط العميقة في طرائق التفكير الاجتماعي العام والعالم، إذ تكشف هذه الدراسات البينية عن جماليات أدبية وتقارن الوعي والتفكير في العجائبي بين الموروث الشعبي والتراث الأدبي العالم. والحق، أنَّ المجتمع العامي يميل إلى التفكير في حقيقة الأمر والمبالغة والحيرة بين التصديق أو التكذيب، في حين لا يرد هذا في الأساس لمن تخطى الوعي الجمعي واستعمل هذا الاعتقاد في أطر فلسفية وأدبية وفنية.
وكشفت الحازمي، أن عملية فقد الانبهار بهذا الإبداع أسهم في الإعلان عن نهايته! وتحديداً قالت: وفي رأيي، أن اعتقاد إلهام الجن للشعراء انتهى منذ أن تطور المجتمع وفقد انبهاره بالإبداع، وربط القدرة الشعرية على الموهبة والثقافة والممارسة حتى وإن كان هذا الإبداع عجيباً ينحى نحو التخيل لعوالم موازية لعالمنا كعالم مستقبلي، أو ماضٍ أو خارق للقوى الطبيعية. لقد أصبح الجني التابع للشاعر أسطورة نشأت في بيئة ثقافية خاصة، وتمددت حتى أصبحت رمزاً يستمد منه الأدباء والشعراء حكايات وأشعار تثري الخيال الأدبي، وتضفي المتعة، وتحقق مقاصد عميقة.
عقل ابتكاري صدامي
وفي معرض إجابتها عن سؤال الثقافية «لماذا الشعر دون غيره من الفنون الأدبية، قالت الناقدة د. زرياف المقداد: ربما لأن الفنون الأدبية الأخرى في كل مراحل بنائها هناك وعي مدرك من قبل الكاتب، وفيه ما فيه من التحليل والاستنتاج وبناء الشخصيات وتصادمها مما يدل على فعل عقل بشري يبتكر الشخصيات ويصادمها ببعضها وفقاً لخصائصها البشرية بغية الوصول إلى خاتمة أو حلول في النص الروائي. في حين يتنصّلُ الشعر من العقل تارة وتارة يُعمل الحكمة ليصف ما فوق الخيال وينسلَّ من قيود الزمان والمكان لتغدو في عالم آخر تحار فيه بين الحقيقة والخيال. فهل يقود السحرُ الشعرَ؟ أم أن الشعرَ يأتي بالسحرِ؟ وما هو الفرق بينهما؟ مفردة السؤال واحدة من متاهات المعرفة التي ما زلنا نلهث وراءها.
ويبقى الشاعر يعزف ذات اللحن بلا خوف ولا تردد مهما كانت جنياته حقيقة أم خيال. وما زال الضوء الهارب من العتمة في قلبي يغريني لأقول: مهلاً لأجد شاعراً يرثيني.
وبالعودة وسؤال الناقد الدكتور خالد التوزاني، عن الاعتقادات التي تروج في الأوساط عن عوالم الجن وقدراتها ومدى تأثيرها، قال: إنَّ الإيمان بتأثير الجن على الإنسان، لا يرتبط بالأفراد محدودي الثقافة والفكر، وإنما نجد كثيراً من المتعلمين والمثقفين لا يزالون يعتقدون حتى الآن في أن بعض الأمراض النفسية والعصبية تنشأ أساساً من مسّ الجن أو العفريت للإنسان، أو أنه يتقمص جسده، ولذلك لا نستغرب وفود بعض المتعلمين على العرافين والسحرة ومدعي الاتصال بالعالم الغيبي أو امتلاك طاقة خارقة يعالجون بها المرضى بطرق غريبة؛ كاللمس والجراحة الروحية وإرسال ذبذبات الشفاء.. وما إلى ذلك من الحلول السحرية أو العاجلة التي يظهر أثرها في الحين ولا تكلف إنشاء مصحات ولا معدات، وإنما يكفي فيها الاعتقاد والتصديق ليحصل الأثر ويعم الشفاء بالبركة، ولعل هذا النمط من العلاج الخارق، يمكن عده تطبيباً نفسياً يركز على الإنصات للمريض أو المضطرب والتفاعل مع آلامه وجدانياً، وفي لحظة معينة يتم إدخال فكرة شفائه التام إلى عقله الباطن ليتصرف جسده بناء على البرمجة الجديدة، فيشعر المريض بنوع من الهدوء أو الاطمئنان جراء دخوله منطقة الأمان التي يعززها لديه المعالج عبر إيحاءات تأكيدية تدفعه للإيمان الجازم بحتمية الشفاء التام والنهائي، ولأن العقل البشري لا يؤمن إلا بما يراه أمام عينيه، فإن المعالج بالخارق قد يوظف بعض الأدوات المادية مثل البخور والتمائم والعزائم والطلمسات والحجب والأقفال والمفاتيح.. وغيرها من الأدوات التي تعطي الانطباع بحل المشكل وجدوى العلاج بهذه الطريقة، فهي علامات تتجاوز البعد الوظيفي التقليدي إلى أبعاد أخرى دالة على خزان من المعاني الهائلة واللامتناهية والتي تملك القدرة على اختراق كل الحجب وتطهير النفس والذات من العلل والأمراض والعاهات، ولذلك يحظى عالم الجن بالغواية والإغراء، ويمثل منفذاً للإنسان لكي يلج عوالم أخرى خارقة، تقدم تفسيراً غيبياً لما يعجز عنه العلم والقوانين الوضعية، أو ربما تقدم حلاً غامضاً لبعض الظواهر غير المرئية، والتي تقلق البشر وتجعلهم يتوقعون الشر في كل لحظة، فينسبون فعل ذلك إلى الجن والشياطين، وهي الكائنات الغامضة، فكما أنها تمثل مخلوقات غريبة ومجهولة الهوية، فلا يمكن تفسيرها إلا بجنسها وهو الغامض والمجهول وغير المرئي، فاللامعرفة تُفسَّرُ باللامعرفة، وعلى الباحث والدارس لمثل هذه الظواهرالغريبة أن يتعلم كيف يتعامل بشكل صحيح مع اللامعرفة.
* * *
معضلة العقل البشري
المحرك الأساسي لكل هذه الأقاويل هو معضلة الإبداع، فالغالبية الغالبة من الناس لا تثق في قدرة العقل البشري، ولذلك اخترعت مسألة الإلهام، وتحت هذه المسألة تفاوتت الفرضيات، ليس في أزماننا الراهنة ولكن في سائر الأزمان، وليس في محيطنا العربي ولكن في كل بقاع الأرض، يختلف في ذلك الناس باختلاف حظوظهم من العلم والمعرفة وبتباين مواقعهم من السلّم الحضاري.
ليس الجنّ وحدهم من يستأثر بتلك الفرضيات بل شاركتها الآلهة والشياطين والعماليق وقوم عاد وشداد بن عاد وبنو هلال وسواهم.
لقد اعتقد البابليون في قدرة عدد من الشيطانات على التأثير في الناس وفي الطبيعة وفي الإلهام ومن بينهن الشيطانة لاهمو، كما أن عند اليونانيين تسع ربّات عرفن باسم الميوزات التسع ومن بينهن: كاليوبي إلهة الشعر الملحمي، وتيريبي: إلهة الشعر المموسق، وإيراتو: إلهة الشعر الغزلي، تيربسيكوري: إلهة الأناشيد، ثاليا: إلهة الأزجال الزراعية. وعند العرب كما عند الأوروبيين هناك رابطة وثيقة بين العبقرية والجنون وما آبدة وادي عبقر عند العرب عنا ببعيد، وقد عقد أبو زيد فصلا في جمهرته عن شياطين الشعر.
وحتى الشعراء أنفسهم تحدثوا عن خدمات قدمها لهم الجن، فالشاعر العربي إمرؤ القيس (500 -540 م) يقول: تخيرني الجن أشعارها، فما شئت من شعرهن اصطفيت. وهذا الشاعر الإنجليزي وليم بلاك (1757- 1827) قرر بنفسه أنه مسكون بالجن وأن ساكنيه من الشياطين تطارده في النهار وتوقظه في الليل لتوحي إليه بالشعر. وحتى في الشعر العامي نجد شاعرا مبرزا مثل عبدالله الزرقوي (1874- 1940 تقريبا) يقول أن جنيّا قد طاف في ليلة واحدة على قُرى بني عبدالله (من غامد) ووصف أوضاعها في نفس اللحظة بقصيدة سمعها منه الزرقوي ومنها: (دخلت وادي الظفير، سمعت نقعا وزير، وصفق شبّانها).
لماذا يعترف هؤلاء وكثيرون غيرهم؟ لماذا التضحية بقصائد عصماء ينسبونها إلى الجن؟ ولماذا تتنازل الجن عن مكتسباتها الثقافية لصالح الإنس؟ سأجيب (زعما): إنها اعترافات تعني أن الشاعر لا يثق في قدراته، أو أنه يساير مزاعم الناس، أو أنه يريد إضفاء أجواء مختلفة وفريدة تحيط به وبقصائده، أو أنه يريد الاختباء خلف الجن تنصلا من إثم ما، أو أنه يقع تحت تأثير حالة من الغياب الفيزيائي الذي يختلط فيه الواقع بالحلم، أو هي أحلام غير تامة حدثت فيما بين الصحو والمنام مثل حالة المخترع إلياس هاو التي تمخضت عن اختراع آلة الخياطة.
... ... ... ...
- محمد ربيع الغامدي
* * *
مخطوطات ومشاريع لعوالم ما ورائية
«قالت الجِن ودوّنها الرواة والقاصون». عنوان دراسة نقدية ومشروع تخرج لباحث «جِني» ودّ صديقي جابر مناقشته حول ما استخلصه هذا البحث، لكن مكالمة طارئة تلقاها – الجني من زوجته – التي كانت في حالة مخاض – كما فهمنا لاحقًا - اضطرته للمغادرة سريعًا. أمر آخر جعلنا نقع – أنا وجابر – في حيرة منه، وكنا لمحناه في عنوان مخطوطة قديمة يعود تاريخها إلى العام ( 2 ق. م) لكنا لم نُطلع الجِن بذلك «إذا كان التشكيك المبني في أعراف النُّقاد ينص على (أن هناك نقدًا للمتن وآخر للهامش في الدراسات)، فما بالنا لم نلمح ما يزيح حيرتنا ونحن نبحث أمام شخصية الشاعر القائل، وما إن كانت من تأليفه – قبل إهدائها – أم لا، ومدى وجود خصوصية أسلوبية تميزه في شعره الآخر المنشور والمزعوم في ساحة الإنس الشعرية، وإمكانية تحقق وحدة القصيدة (البنية) في قصائده الأخرى. ولم ينجح كل ذلك في إزاحة حيرتنا، ولم يجد التشكيك والدفع بنا لنصفه بجزم حازمين من أنه (ظاهرة العبث)! وقد أدرجه القاصون والرواة، وتلقفه جمهور الناس زورًا وبهتانا «أنّ شاعرًا من الجن تلبّسَ شاعرنا الإنسي العربي».