د. عبدالرحمن بن حمد السعيد
ذكرتُ في الجزء الأول بعضاً من أسباب إعجابي بكتاب «ابن سعود» باني المملكة العربية السعودية، كما وصفه بحق مؤلفَا هذا السِّفْر الرائع.. وللتذكير فإن مايكل دارلو وباربرا بري نشرا هذا الكتاب عام 2010م، وهما كما أسلفت يساريان لا يربطهما بهذا الوطن أو مؤسسه سوى الإعجاب بالقيم والحقائق التي قاتل عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل من أجل إرسائها، وسأحاول في هذه القراءة الأولية أن أستعرض (بين هلالين) ما سطره المؤلفان.
يبدأ الكتاب من حيث ترعرع بطل هذه السيرة تحت ظروف صعبة ليس أقلها أن الدولة السعودية الأولى والثانية لم تتمكنا، لظروف مختلفة، من إكمال دعائم الحُكم الرشيد الذي قاتل قادتها الأفذاذ من أجله، فكان لزاماً على الخَلَف إتمام ما بدأه السَّلَف، وكانت هذه هي المهمة التي وفَّق الله سبحانه عبد العزيز لإتمامها.
يتحدث الكتاب بشيء من التفصيل عن خروج الإمام عبد الرحمن - رحمه الله - من الرياض على أثر استيلاء ابن رشيد عليها في بداية عام 1891م، وفرحة قبيلة المرة بالقادم الكريم واحتفاؤها به وبابنه عبد العزيز الذي لم يتعد مرحلة الطفولة، بعدها يتحدث الكتاب عن سرعة امتلاك عبد العزيز مهارات العيش تحت شظف مناخ الصحراء وقسوته، وفي تلك المرحلة اشتد عود الطفل الذي استقبل مرحلة الشباب بجد وصبر؛ فأعطته حياة الصحراء فرصة للتفكير والتأمل فيما يجب عليه في قادم الأيام.
يقول المؤلفان: «من خلال العيش في الصحراء تعلَّم عبد العزيز سبل وأساليب النجاة وتحديد الأهداف والطموحات»، كانت تلك الفترة بقسوتها منجماً تعلَّم فيها الفتى الصبر والرضا بالقليل والطموح لما هو أكبر وأغلى.
الكويت: النبوغ المبكر
بعد ثلاثة أعوام من العيش في الصحراء وملازمة والده ورجال المرة الكرام انتقل الإمام عبد الرحمن إلى الكويت، وكانت الكويت تحتضن ميناءً مهماً يستقبل أناساً من مختلف الجنسيات والمهن والثقافات.
والشاب الذي نشأ على موروث وتاريخ الدولة السعودية الأولى والثانية اشتد عوده ونمت خبراته، وألحَّ عليه نداء الحق والواجب والشرف.. بهذه الأسلحة وصل عبد العزيز الكويت والتقى مؤسس الدولة السعودية الحديثة مؤسس الكويت الحديثة الشيخ مبارك، وكأنما أراد الله، سبحانه، الخير لهذين الرجلين، حيث أدرك مبارك ما تحلَّى به عبد العزيز من نضج مبكر وسداد رأي، فقد وجد مبارك في هذا الشاب صلابة الإيمان بالله وقوة العزيمة والفكر الرشيد.
يقول المؤلفان: «شعر مبارك بأن عبد العزيز أهلٌ للمشورة؛ فدعاه للمشاركة في مجلسه وفي مؤتمراته ونقاشاته»، ثم يزيد المؤلفان: «كان عبد العزيز يلتقي في مجلس مبارك رجال الأعمال وممثلي الدول العظمى مثل فرنسا وبريطانيا وروسيا وألمانيا، وهكذا فقد كان عبد العزيز مطلعاً على أساليب التعامل مع القضايا الكبرى، وكيف كان أثر هذه العلاقات الدولية المتشابكة والمتعددة على مبارك وعلى الكويت».
ويتوقف الكاتبان طويلاً أمام إدراك مبارك ما وهب الله عبد العزيز من ذكاء فطري نادر، ومقدرة استثنائية على الوصول إلى لُبِّ المشاكل والخروج برأي متوازن في طريقة حلها، وقد كانت هذه بدون شك مرحلة مهمة، «فيما استطاع عبد العزيز التوصل إليه بذكائه الفطري، وحبه للمعرفة وقدرته الاستثنائية على التمحيص والتدقيق واختيار المسار المناسب»؛ حيث مهدت لما بعدها من خلال مقدرة استثنائية على التعامل مع الخصوم والحلفاء، وما بينهما من قوى عصفت رياحها وأطماعها وأحابيلها بوطن تشكَّل تحت ضغوط تنوء بحملها الجبال، وتصدى لها وتغلَّب عليها شابٌ وفَّقه الله لإنقاذ وتوحيد أمة كاد أن يتنازعها الجوع والخوف والصراعات القبلية والدولية.
الرياض: تحديات العودة للوطن
رحلة العودة المظفرة إلى الرياض واستعادتها يرويها الكاتبان بأسلوب شيِّق يناسب عظمة الإنجاز، يقول المؤلفان: «كان يوم 15 يناير 1902م بداية قوية لمرحلة جديدة ومختلفة في تاريخ الجزيرة العربية، وربما جاز القول في تاريخ الأمة العربية»، ويؤكدان أن «كل من التقى عبد العزيز في تلك الفترة ولو للحظات قليلة خرج مبهوراً بالكاريزما الطبيعية التي يتحلى بها»، ثم يستطردان: «منذ تلك اللحظة أصبح عبد العزيز يسمى ابن سعود مثل جده فيصل ووالده عبد الرحمن من قبله، فقد استحق تحت إلحاح ودعم والده أن يصبح رأس الهرم في محيطه»، ويورد الكتاب رسالة بعث بها المقيم البريطاني في الخليج لرؤسائه في لندن في منتصف شهر يناير، «حدث في الجزيرة العربية أمرٌ في غاية الأهمية من خلال استيلاء عبد العزيز على الرياض»، ومع هذا فقد رفضت الحكومة البريطانية كل مطالب الملك عبد العزيز المشروعة بالاعتراف بما أنجز واعترف به مندوبوها.
كان عام 1902م حافلاً بالنجاحات والتحديات أيضاً، فلم ينتهِ صيف ذلك العام إلا وقد تمكن القائد الشاب من بناء سور متين حول مدينته المحبوبة الرياض، وبعدها بشهرين تقريباً كان قد تمكن من الحصول على ولاء كل قبائل جنوب نجد، وحقق نصراً باهراً في معركة الدلم من خلال تطبيق تكتيك حربي، «من النوع الذي اشتهرت به الجيوش الإمبريالية في أوروبا»، كما يؤكد المؤلفان.
ومع إطلالة عام 1903م فقد أصبح عبد العزيز رقماً صعباً في محيطه، وحين ذهب إلى الكويت بصحبة أخويه محمد وسعد، فإن الكويت قد استقبلت فيه قائداً مظفراً وزعيماً جديراً بالتقدير والاحترام، وبنفس القدر أظهرت الدول العظمى رغبة قوية في الالتقاء به.
ويورد الكتاب شيئاً من لقائه - رحمه الله - بمندوبي الدول العظمى ومن بينهم القنصل الروسي، والنقاش المهم الذي دار بينهما، ثم إبداء الحكومة الروسية استعدادها لتمويله بالمال والسلاح، وهو العرض الذي لم يبدِ - رحمه الله - حماساً قوياً لقبوله، ويلحظ المؤلفان أن عبد العزيز أظهر في هذه المرحلة المبكرة من مسيرته فهماً عميقاً لتقاطع علاقات الدول الكبرى في المنطقة، وكيفية الاستفادة من هذا التقاطع لتحقيق أهدافه».
ورغم بُعد عبد العزيز عن ساحة المعركة فقد تمكن المرحوم الإمام عبد الرحمن بشجاعة وحكمة من حماية الرياض من هجوم مباغت، إضافة إلى الولاء الذي أظهره المواطنون والنابع من ثقة متينة بالقيادة السعودية، والسور المنيع الذي بناه عبد العزيز حول الرياض، كل هذا مكَّن الرياض من الصمود، ومنح عبد العزيز مصداقية عالية؛ جعلت «القوتين العظميين (بريطانيا وتركيا) تقعان في دوامة كبيرة من الحيرة»، فلقد كان النقاش ساخناً «داخل دوائر صنع القرار في كلتا الدولتين»، كيف يجب التعامل مع هذه القوة الصاعدة التي امتلكت القوة الكافية لاستعادة مواقعها وولاءات محيطها، وأثبتت في الوقت ذاته مقدرة على الحوار والتواصل مع الجميع.
المؤمن الصلب والقائد المتسامح
يرسم الكتاب صورة تظهر المعدن الصلب والمؤمن في شخصية عبد العزيز القيادية أثناء معركة البكيرية في أواسط شهر يوليو 1904م، يقول المؤلفان: «في هذه اللحظات التي واجه فيها عبد العزيز ما لم يكن ممكناً لأحد التغلب عليه، برز العمق الحقيقي لصلابته وتصميمه، فلم تمنعه جراحه النازفة من استنهاض همم رجاله الذين رأوه يتنقَّل بينهم يحثهم على الصبر والمجالدة، فلقد استطاع تحت أقسى الظروف أن يعيد صفوفهم ويشحذ عزائمهم».
هنا، وتحت ظروف يصعب وصف قسوتها تبرز صفات القائد المؤمن بعدالة قضيته، يقول المؤلفان: «صلابة معدن عبد العزيز وقوة إرادته لا تتجلى في أبهى صورها كما تتجلى وهو يواجه خسارة معركة»، فعلى الرغم من الجراح ونزيف الدماء التي أضعفته جسدياً، إلا أنه استجمع قواه واتجه شرقاً وجنوباً لرص صفوف القبائل المؤيدة له، ثم بعث رجاله المخلصين إلى المناطق البعيدة للهدف ذاته، حيث تغلَّب على شكوك الكثيرين ومخاوفهم بحرارة إيمانه وصدق تفاؤله، «وأكد لهم أنه ما لم تتوحد الصفوف فإن أرضهم وكرامتهم سيتم انتهاكها من قبل الأعداء».
كل هذا لم يكن إلا بداية لسلسلة طويلة من المعارك امتحن فيها المعدن الصلب لطبيعة وقدرات الملك عبد العزيز، حيث يؤكد الكتاب أن هذه المرحلة «أثبتت بحق عمق تماسكه وتصميمه، فعلى الرغم من جراحه العميقة التي تم ربطها بسرعة، عاد إلى قلب المعركة متحركاً ومقاتلاً في وطيس نزال طاحن وبين الجثث المتناثرة، مطلقاً النار محفِّزاً للهمم ومناشداً مقاتليه الصمود، متنقلاً بين المجموعات حاثاً على الثبات، حتى عندما بدا أن المعركة قد استنفدت طاقات وقدرات رجاله».
يقول المؤلفان: «لم يستغرق الأمر سوى أسابيع حتى تمكَّن الملك عبد العزيز من تكوين قوة قتالية جديدة، وفي النهاية فقد التقى الجيشان في أواخر عام 1904م، تحت ظروف مناخية صعبة أنهك خلالها الحر الشديد خصوم الملك عبد العزيز، وعندما حانت لحظة النصر في نزال آخر فقد تحقق له نصر نهائي وكامل ضد قوة كبرى فاقت ما لديه عدداً وعدة»، وهكذا تضافر التوقيت الجيد للمعركة مع التخطيط الحصيف والتعبئة السليمة، والاستفادة من ظروف المناخ في تحقيق نصر عظيم وكامل يرى الكتاب أنه يعادل في أثره «استعادة عبد العزيز الرياض».
يؤكد الكاتبان أن المرحلة ما بين عامي 1908م و1910م كانت حافلة بقدر كبير من التحدي، «بين هذين العامين لم يفارق الملك ميادين القتال، فقد كان يعالج تمرداً هنا وتحدياً هناك وانشقاقاً في مكان آخر، لكنه وخلال كل هذه الظروف القاسية بقي صامداً متنقلاً بين مصادر المتاعب وميادين القتال، وغالباً ما كان مضطراً إلى قطع مئات الأميال في الصحراء القاحلة متقدماً قواته وداعياً حلفاءه للصمود وهو في مقدمة المقاتلين في قلب المعركة، لم يكن منتصراً بشكل دائم وكثيراً ما جُرح، لكن شيئاً من هذا لم يوقفه عن مواصلة القتال.
لم تكن النكسات توهن عزيمته أو تجعله يتراجع، بل كانت تشحذ همته وهمم أنصاره ليعيد المحاولة مراراً، شانَّاً هجمات جديدة حتى يظفر بالنصر في نهاية المطاف، وحين يتحقق له النصر في موقع ما، فإنه كان يشرف بنفسه على استعادة النظام وتقويم المعوج وسماع شكاوى الناس والتأكد من إقامة العدل، حتى أولئك الذين انقلبوا عليه أو تنكَّروا له، فقد كان يعاملهم برفق ورحابة صدر».
وقد حفل الكتاب بعشرات المواقف التي تجسِّد ما اتصف به - رحمه الله - من شجاعة ومقدرة استثنائية على التسامي فوق الجراح والإساءات.. هذا الأسلوب والمنهج الناجع والموفق في التعامل مع الجميع (بمن فيهم الإخوان)، أورده المؤلفان بقدر من التفصيل الرائع من خلال وصف المؤتمر الذي عقده - رحمه الله - في الرياض في ديسمبر 1928م والذي قدَّر الكتاب حضوره بما يفوق ثمانمائة من شيوخ القبائل، ومن خلال وصف دقيق للترتيب المحكم لهذا المؤتمر وللكلمة الحصيفة والقيادة الواثقة، يسجِّل المؤلفان توصُّل الحضور إلى القناعة التامة وهم يرددون بصوت واحد: «كلنا متفقون، لا نريد أن يقودنا سواك».
وهكذا فقد كان - رحمه الله - موفَّقاً غاية التوفيق في معركة كسب القلوب والعقول أو ما يسمى حالياً: The battle for Hearts and Minds.
شيخ بين القوى الإمبريالية
يفرد الكاتبان عدة فصول للحديث عما تحلَّى به - رحمه الله - من مهارة ومقدرة استثنائية في التعامل مع سياسات ودسائس وشخصيات الدول الكبرى، مثبتين بما لا يدع مجالاً للشك أنه قاد هذه المعركة بنجاح منقطع النظير، ولعل هذا كان أحد أسباب ما يلحظه القارئ من إعجابهما الشديد بقيادته.
في تقرير سري صادر عن المكتب العربي المقام في القاهرة والمكلف إذ ذاك بتنسيق وتقييم السياسة البريطانية في العالم العربي نقرأ ما يلي: «لا يمكن لصانعي السياسة البريطانية النظر إلى ابن سعود كحليف محتمل»، ويرى المؤلفان أن «نتيجة عداء بريطانيا للملك عبد العزيز يتضح بتبنِّيها سياسة كارثية النتائج جرَّاء دعمها الشريف حسين، لقد أدت أهواء وميول القائمين على المكتب العربي في القاهرة وضعف إلمامهم بالواقع إلى تبني سياسة تدعم الشريف وتخسر ابن سعود»، ويرجع المؤلفان هذا التوجه إلى ما اتصفت به السياسة التي رسمها وزير الخارجية سايكس وشريكه الفرنسي (في اتفاق سايكس / بيكو الشهير) «من انتهازية» تجلَّت في أسلوب دعمهم الشريف حسين.. المفارقة أن تقارير المكتب العربي المعبِّرة عن جهل وتحامُل كُتَّابها من أمثال الآنسة جرترودبيل تغيَّرت بشكل كامل عندما التقت الملك عبد العزيز في البصرة، حيث كتبت ما يلي: «كسياسي وحاكم ذي هيبة ومقاتل يجسِّد القادة التاريخيين، مثل هؤلاء الرجال هم الاستثناء في أي مجتمع»، وهنا نتذكر أن الآنسة بيل قبل لقائها الملك عبد العزيز كتبت تقارير تداولها كبار صناع السياسة البريطانية تهاجم الملك عبد العزيز وتقلل من شأنه، نتذكَّر أيضاً أن كُتَّاباً ومؤرخين مثل الليدي آن بلنت قد أسسوا لهذا الفكر، حيث كتبت بُعَيد نهاية الدولة السعودية الثانية ما يلي: «بإمكاننا القول إن قوة ومكانة العائلة السعودية في الجزيرة العربية قد انتهت».
خصص المؤلفان فصلاً كاملاً ومهماً تحت عنوان «شيخ بين القوى الإمبريالية»، يمكن تلخيصه بأن الملك عبد العزيز استطاع أن ينأى بنفسه عن إغراءات القوى الإمبريالية وأحابيلها، سواءً «روسيا التي قدمت التعهدات والوعود السخية أو بريطانيا المتأرجحة والمناورِة أبداً، أو تركيا التي كانت تسيطر فعلياً على معظم الجزيرة العربية».
ويورد الكتاب شهادة مستكشف بريطاني كان في رحلة للربع الخالي ثم التقى الملك عبد العزيز عام 1912م وكتب عنه ما يلي: «لقد أثار دهشتي أن هذا الرجل البعيد عن كل العواصم الكبرى وعن طرق التجارة، والمقيم في أبعد نقطة في وسط الجزيرة العربية كان على اطلاع واسع على آخر الأحداث العالمية التي تجري بعيداً عن الصحراء المحيطة به».
كاسب العقول والقلوب: مثال شكسبير وكوكس
يعطي المؤلفان أهمية خاصة لعلاقة الملك عبد العزيز، التي كثُر حولها اللغط والدس، مع الكابتن شكسبير، حيث كتبا فصلين كاملين عن شكسبير.
يبدأ الحديث عن الرجل بأنه كان عكس معظم الأوروبيين لا يكن عداء أو احتقاراً مسبقاً للعرب، ولذلك فقد رحَّب بدعوة الشيخ مبارك للقاء الملك عبد العزيز في عام 1909م، على الرغم مما كان عليه من إرهاق شديد جرَّاء رحلة طويلة في الصحراء عاد للتو منها، ويورد الكتاب انطباع شكسبير عن الملك عبد العزيز في كلمات ملؤها الإجلال والتقدير: «ذكي بشكل لافت، ذو عقل كبير ومستقيم وصريح بشكل يجعلك تشعر بالثقة كما لم أشعر بها مع حكام العرب الآخرين، تنم سيرته عن رجل نبيل وكريم لا يسمح لنفسه بالنزول إلى الممارسات غير اللائقة بالكبار».. هكذا تولدت مشاعر عميقة من الاحترام بين الرجلين، وسجَّل الكتاب حديثاً يتسم بالصراحة بينهما، حيث حذَّر شكسبير الملك عبد العزيز من مغبَّة التهوين من القوة «المجتمعة لخصومه، ثم أنه أعاد تحذيره للملك عبد العزيز بألا يتوقع أي مساندة من الإنجليز الذين يرغبون في الحفاظ على صداقتهم مع أعدائه»، ويسجِّل الكتاب رد الملك عبد العزيز الحكيم على هذه النصيحة، «يوماً ما ستضطركم الظروف إلى تغيير موقفكم»، اقتنع شكسبير برأي الملك عبد العزيز ورفعه إلى السلطات البريطانية التي وجهت له تقريعاً ولوماً رسمياً.
ثم يتحدث الكتاب بشكل مفصل عن الأحاديث الطويلة بين الرجلين النابعة من احترام شكسبير الكامل كما عبَّر عنه آنفاً، ثم يورد الكتاب بتفصيل كبير محاولات الملك عبد العزيز المتكررة لثني شكسبير عن حضور معركة جراب وإصرار الرجل الشديد على ذلك، ويدحض الكاتبان التخرصات التي أحاطت بموته في يناير عام 1915م خلال المعركة، «لم يهرب عندما انقضت جموع المهاجمين عليه؛ لأنه اختار أن يموت بشجاعة غير عابئ بذاته».
ما نعرفه بكل تأكيد كما يقول المؤلفان إن عبد العزيز بادله الوفاء، وكان إذا سئل من هو أعظم إنجليزي قابلته فقد كان جوابه بلا تردد: شكسبير».
والشخص الآخر الذي يتحدث الكتاب عنه باستفاضة هو السيد بيرسي كوكس المقيم البريطاني في العراق خريج كلية هارو وساند هيرست، الدارس المتعمق في التاريخ والضابط الشجاع الذي تحول فيما بعد للعمل الإداري، والذي وقَّع مع الملك عبد العزيز أكثر من معاهدة كان فيها «متفهِّماً أكثر من رؤسائه موقف وأهمية الرجل الذي بادله الإعجاب والتقدير منذ أول لحظة التقاه فيها».. ويتوقف الكتاب طويلاً أمام الاتفاقية التي نتجت عن مؤتمر العقير (2/12/1922م) التي قام السيد برسي كوكس بدور الوسيط فيها والتي اختتم بها عمله في المنطقة، ويلخص المؤلفان موقف الملك عبد العزيز من هذه الاتفاقية بالقول: «كان يعرف طبيعة التحدي الذي يواجهه في هذا المؤتمر، لكنه أيضاً يعرف أهدافه على المدى الطويل»، يحسب للمؤلفين هنا حسن تقديرهما لنظرة الملك عبد العزيز الاستراتيجية وفهمه العميق لمواقف الأطراف وطبيعة الظروف وقتها، وما هو ممكن مرحلياً وما هو قابل للتحقيق على المدى الطويل، لهذا فالقارئ لن يستغرب الموقف الذي صوَّره الكتاب عندما بكى سير برسي كوكس ومعه الملك عبد العزيز من إجحاف الاتفاقية، وجاء توصيفه على لسان ديكسون حين كتب: «كلا الرجلين كان قائداً عظيماً، وكلاهما كان يعرف تماماً ما يفعل».
لقد كان الملك عبد العزيز في كل هذا يمارس ما أصبح متعارفاً عليه بالصبر الاستراتيجي، ولابد أن السير برسي كوكس يتذكر جيداً ما كتبه الملك عبد العزيز بعد استيلائه على الأحساء، «إذا لم تكن بريطانيا قادرة على إقامة علاقات الصداقة التقليدية بيننا؛ فأرجو إطلاعي لأتخذ ما يحقق مصالحي».
ومن توفيق الله وحسن إدارة عبد العزيز لهذه العلاقة ما أورده المؤلفان: «مع حلول عام 1943م لم تكن بريطانيا والولايات المتحدة تعملان معاً كحليفين في السعودية، لكنهما كانا يتنافسان على التأثير على الملك، وكان هو في غاية السعادة لرؤية هذا التنافس الذي يصب في مصلحة بلاده المالية والسياسية».
الأميرة أليس وهي ابنة أخ الملك جورج السادس عبَّرت في رسالة لعائلتها عن حسرتها على فقد بريطانيا مكانتها ومصالحها حين كتبت: «لقد كنا أغبياء حين تخلينا عن اتفاقياتنا مع السعوديين، اكتشف الأمريكان البترول وليس لنا منه نصيب».
بعد هذا يفرد المؤلفان حيزاً ممتازاً للحديث عن نجاح الملك عبد العزيز الكبير في لقاءاته مع روزفلت وتشرشل، ويمكننا أن نقتطف من هذه اللقاءات ما يلي: «اقتنع روزفلت بحجج الملك عبد العزيز فيما يخص فلسطين، ما اتفق عليه يمثل في نظر الملك وعداً تاريخياً لا يمكن الالتفاف حوله، بأنه لن يقوم بأي عمل يساعد اليهود ضد العرب ولن يقوم بأي تحرك معادٍ للعرب، ولن تغيِّر الولايات المتحدة شيئاً في موقفها الأساسي بدون التشاور الكامل والمبكر مع اليهود والعرب معاً»، وهذا موقف أكَّد عليه روزفلت من خلال رسالة خطية وجَّهها للملك عبد العزيز، وقد أكَّد لكل المحيطين به ولأعضاء الكونجرس «أنه تعلَّم في لقاء واحد مع الملك عبد العزيز عن القضية الفلسطينية والقضية العربية أكثر مما تعلَّمه من عدد كبير من الإحاطات والإيجازات أو الكثير من الرسائل»، هذه شهادة زعيم كبير ما زالت أمريكا تتذكره بقدر كبير من الإجلال والتقدير.
يؤكد الكتاب على المحبة الهائلة التي أظهرها العرب والمسلمون تجاه هذا القائد العظيم، وتتمثل في الاستقبال العظيم من قِبل الشعب المصري: «لقد احتضنه المصريون بقلوبهم، وامتلأت الشوارع التي مر بها، وفي أكثر من مناسبة أوقف الناس موكبه ليحظوا بإطلالة على هذا القائد العظيم أو ربما حتى للمس السيارة التي كان يستقلها، لقد كان الحماس عظيماً فقد ملأت النساء ممرات الطرق أملاً في إلقاء نظرة على شبيه الملك سليمان»، والكلمات هذه اقتباس مباشر من المؤلفَين.
بقي ملمحٌ آخر يلقي ضوءاً على أسلوبه في بناء الوطن لم يغفل عنه الكتاب، فلقد حباه الله بقدرة هائلة على التركيز، «حتى أن زوَّاره في الديوان يتملَّكهم العجب لمقدرته على مواصلة الحديث في ذات الوقت الذي يملي فيه رسالتين أو أكثر في مواضيع مختلفة، دون أن يفقد تركيزه أو يتردد في متابعة أو إملاء أيٍ منهما».
ولم يغفل المؤلفان عن التطرُّق إلى سلوك الملك عبد العزيز الذي لا يتغيَّر مع تغيُّر الأماكن، حيث يصحو قبل الفجر بساعتين لأداء صلاة خاشعة.
وينقل الكتاب عن الأميرة أليس أنه - رحمه الله - «كان يحب أبناءه الصغار ويأخذهم إلى كل مكان ويشرف على نومهم».
وبعد:
فنحن أمام عمل توافرت له كل عناصر الحيادية والموضوعية والمصداقية العالية.
أشرتُ في الحلقة السابقة إلى بعض ما يميزه عما سبق، إضافة إلى احتوائه على مئات الوثائق والمراجع التاريخية من مصادرها الأصلية، وأود أن أضيف هنا ملمحاً آخر لهذا الكتاب الذي نُشر في عام 2010م، وأخذ مادته الغزيرة وتأليفه ومراجعته بعض السنوات، أي أن الكتاب تم نشره في أجواء ما بعد سبتمبر 2001م، وما اتسمت به تلك الأجواء العدائية من تهجُّم على كل ما له علاقة بهذا الوطن في كل أداة من أدوات الإعلام الغربي وفي وسائل التواصل الاجتماعي المتناغمة معه، وهذه ميزة أخرى تضاف إلى ما لهذا العمل من محاسن، أما بالنسبة للمواطن السعودي فإنني أجزم بأن كل قرية وعائلة على امتداد هذا الوطن تملك ذكرياتها الغالية عن أجداد قاتلوا وماتوا تحت رايته الخفَّاقة.
وأستميح القارئ الكريم عذراً إذ تعود بي الذاكرة إلى سنوات الطفولة، حيث كانت التساؤلات والحيرة تنتابني عند حديث والدتي عن ظروف مقتل والدها - رحمهما الله -، فقد كان محمد الشريدة من كبار أعيان وأثرياء مدينة بريدة، وكان الناس يتذكرونه لأمرين: أولهما حين وفَّقه الله مع إخوته وأعوانه لفتح بوابة المدينة عنوة أمام الملك عبد العزيز في عام 1906م، وما لقيه من عنت في سبيل تحقيق هذا العمل المبارك، والثانية تتعلق بمشاركته في معركة جراب ملقياً بنفسه في خضم المعركة رغم تقدُّم سنه واستشهاده بعد ذلك.
سؤالي وحيرتي - وهي بلا شك حيرة شاركني فيها آلاف ممن قضى أجدادهم تحت نفس الظروف - تركَّزت حول الأسباب الموجبة لهذه المخاطرة، ولأنني كنت أعيش في وطن استتبت فيه أسباب الأمن والاستقرار، فإن ذاكرتي لم تعرف سنوات الخوف والنهب والاقتتال الذي عاشته هذه البلاد، وما كان يعتري أهلها من ذعر وهم يتنقلون في أرض الله طلباً للعيش، أما جدي فقد عرف وخبر كل هذا، وعرف أيضاً أن الدولة السعودية الأولى والثانية نشرتا الأمن والطمأنينة وأعطتا كل ذي حق حقه فاسترخص الموت طلباً للحياة.
لقد منحنا عبد العزيز - بعون من الله - هويةً وطنيةً جامعةً حين بنى هذا الوطن على المحبة واجتماع الشمل وفعل الخير، أورثنا عبد العزيز وأجدادنا الذين قاتلوا تحت رايته وطناً ليس ككل الأوطان، تهيأت له شرعية عظيمة، وإنجازات رائعة، ومكانة سامقة، من حق أجيال لم تر النور بعد أن تتفيأ ظلاله وتنعم بخيراته كما هو قدرنا، وأن يعرفوا أيضاً حجم المعاناة التي واجهها المؤسس ورفاقه.
ما حاولت أن أنقله للقارئ الكريم هو بكل بساطة عمل عظيم، لا تدخله شبهة الرغبة في مكسب مالي أو سياسي، فحياد الكاتبيْن واضحٌ كالشمس في رابعة النهار، ومراجعتي هذه ليست عملاً نقدياً فلست من فرسانه، ولا هي مراجعة تاريخية وتقييماً لمحتوى هذا الكتاب المهم، إنها فقط محاولة بسيطة للقراءة، وأعتذر عن تقصيري في اكتمال عناصرها، وأتطلع لرؤية هذا السِّفْر مترجماً لكي يشكل إضافة إلى مخزوننا الوطني وذاكرتنا المشتركة.
غادرنا - رحمه الله - بعد أن أورثنا أهم ميزة يمكن لشعب أن يمتلكها وهي ميزة الاستقرار الذي إذا استمر وتراكم فإن المحصلة عادة ما تفوق الخيال.
والحق أن عبد العزيز، رحمه الله، مهما بُعد به الخيال، لم يكن ليتصور أن الوطن الذي بناه سيحقق في أقل من سبعين عاماً كل هذا الكم الهائل من الإنجازات، لم يدر بخلد عبد العزيز أن هذا الوطن سيمتلك أكبر شركة بترول في العالم تديرها أيدٍ سعودية، ولم يدر بخلده أو خلد من عاش مرحلة التأسيس أن هذا الوطن سيمتلك إحدى أهم شركات البتروكيماويات (سابك) وأنها ستؤسس وتدار بأيدٍ سعودية، ولم يتوقع أحد من معاصريه أن جامعة سعودية ستحتل رابع مقعد بين جامعات العالم في عدد براءات الاختراع (جامعة الملك فهد للبترول عام 2018م)، ولا أن بعض أهم مستشفيات العالم وأطبائه ستحتضنهم أرض هذا الوطن.
ما وصلنا من وصف مريع للموت والدمار الذي خلَّفته الجوائح الصحية على هذه الأرض (وأشار إليها الكِتاب)، وما نشهده اليوم من تميُّز وتفوُّق الاستجابة السعودية لـ»كوفيد - 19»، إنما هو دليلٌ آخر على نجاح التجربة السعودية، وعظمة بانيها، كيف لا، ونحن في مقدمة الشعوب التي تمكَّنت من استثمار الثورة الرقمية في تحقيق هذا النجاح («توكلنا» وأخواتها مثالاً)، ولم يدر بخلده أن هذا الوطن سيمتلك أحد أقوى عشرين اقتصاداً في العالم.
وَجَدَنا عبدُ العزيز ونحن قبائل تتقاتل على الماء والمرعى، وغادرنا ونحن أمةٌ موحَّدة المستقبل والهوية والذاكرة، وهي مهمة تصدى لرعايتها (ولا يزال) أبناؤه وأحفاده البررة.
رحم الله عبد العزيز وجزى أبناءه الكرام كل خير، فقد شيَّد خيمة فسيحة - قامت أعمدتها على التسامح والتكافل وحسن النية - استوعبت قروناً من الفرقة والخوف والنزاعات المُرَّة. وأخيراً فإنني أستميح القارئ الكريم عذراً إن كان ما أشرت إليه لا يمثل إلا غيضاً من فيض هذا الكتاب الذي حاول كاتباه - ونجحا في تقديري - من موقع كامل الحياد في تقديم قراءة أخرى لسيرة مبهرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، قراءة تضافرت لها رشاقة ودقة العبارة، مع حرص واضح على التفاصيل التي تمكِّن القارئ من معايشة أحد أهم وأروع الإنجازات الإنسانية.
** **
الناشر: سكاي هورسن للنشر بنيويورك - بتاريخ 2010م
تأليف: مايكل دارلو، وباربرا بري