د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الحاجب المنصور، نادرة من نوادر الدهر، في قوله، وفعله، وحربه، وسلمه، وهو ليس من بيت حكم، لكنه حكم باسم حاكم أموي، حجبه الحاجب عن الناس، لأمرين اجتمعا، غفلة الحاكم، وطمع الحاجب، أو فقل غفلة الأموي، وطمع العامري.
ومن صفاته الكرم، ومن أمثلة ذلك أنه أراد بناء قنطرة قرطبة، وكان لابد لها أن تمر من قطعة أرض يملكها أحد كبار السن المعوزين، فأرسل له الحاجب من يسأله عن المبلغ الذي يراه قيمة مناسبة لها، وذكروا له أنهم من قبل الحاجب المنصور، وأنه لا يريد إلاّ إنصافه فيها، فرماهم بالعرض الأعلي الذي يظن أنها لا تخرج عنه، وبالغ في ذلك على حد طموحه، وقال لهم: إنني لا أقبل بأقل من عشرة دنانير ذهباً، وكان ذلك المبلغ أقصى أمانيه، وأبعد مراميه، فاستغل مناديب الحاجب غفلته، فأعطوه المال من ساعتهم، وأشهدوا عليه، ثم ذهبوا إلى المنصور، وأخبروه بخبره، فضحك من جهالته، وأنف من غبنه، وأمر أن يعطي عشرة أضعاف ما سأل، وأن يسلموها له صحاحاً نقية صافية، فذهبوا إلى الشيخ ونقدوا له مائة دينار، كما أمرهم المنصور، فلما قبضها كاد يخرج من عقله، وأن يجنَّ عند قبضتها من ساعته، وأخذوه إلى المنصور ليشكره، أو ربما ليؤكدوا للحاجب أنهم قد سلموها لصاحبها كاملة، لا نقص فيها، فأصبحت قصته، من القصص المروية، والأحداث الظاهرة غير الخفية.
والحقيقة أن هذه ليست الوحيدة للدلالة على كرم المنصور، فمواقفه في ذلك الأمر لا تحصى.
من أغرب ما كان يفعله أن قد خط بيده مصحفاً، وكان يحمله معه في كل غزواته تبركاً، كما أنه يجمع الغبار الذي يعلق بجسده في غزواته ويحتفظ به، حيث كان عدد من جنوده يمسحون ذلك الغبار بالمنديل ويضعونه في صرة معه، وأمر أن يصير ما اجتمع من غبار في حنوطه عند موته وكان يحملها حيث سار مع أكفانه. وكانت أكفانه من أطيب مكاسبه من الضيعة الموروثة من أبيه، وغزل بناته، وكان يدعوالله أن يموت في ميدان الوغى، فكان ذلك.
ومن قصصه أن خصومة حدثت بين فصَّاده الخاص وزوجته، أي الذي يعمل الحجامة ونحوها، وذهبت الزوجة إلى القاضي واشتكت زوجها ظلمه لها، فحبسه القاضي لكي يعترف، فلما طلبه المنصور لم يجده وقالوا له: إن القاضي قد حبسه بشكوى من زوجته، قال أحضروه، فصد المنصور، ثم قال لأعوانه: أعيدوه إلى محبسه. فشكا الفاصد قسوة القاضي عليه، فقال له المنصور: يا محمد أنه القاضي، ولو أخذني للحق ما خرجت عنه الطاعة، عد إلى محبسك، أو اعترف بالحق، فهو الذي يطلقك، فانكسر، الفاصد أي الحجام، وزالت عنه ريح عناية المنصور، وبلغت قصته للقاضي، فصالحه مع زوجته، ويبدو أنه أخذ درساً لن ينساه.
وفي قصة أخرى تدل على قوة حدسه وحرصه، فقد كان جالساً ليلة شديدة البرد والريح والمطر، فدعا أحد فرسانه، وأمره أن يهب إلى طريق حدده المنصور، ثم طلب منه أن يحضر له أي شخص يراه ماراً، فذهب وجلس هناك برهة من الزمن، وإذا بشيخ رث الثياب على حمار، فحدث الفارس نفسه إن كان من اللائق أخذ شيخ مثل هذا إلى المنصور، فتركه وشأنه، لكنه خشي سطوة المنصور، فناداه وطلب منه مرافقته إلى المنصور، فحاول الشيخ التخلص، لكن الفارس أصر على المرافقة، فامتثل الشيخ، فقال المنصور لحراسه: فتشوه. ففعلوا، ولم يجدوا شيئاً، فطلب منهم تفتيش بردعة حماره، فوجدوا فيها كتباً من عدو له، إلى أعوان للعدو في الداخل، طالبين معرفة توجهات جيش المنصور في الفترة القادمة، وكان المنصور يخفي خططه العسكرية وتوجهه في غزاوته، فقبض عليه.
علينا أن نضع نصب أعيننا أن بعض الرواة والمدونين والمؤرخين ينسجون قصصاً وهمية حول من يكتبون عنهم، إما للمبالغة، لرفع شأن من يكتوب عنه، أو التقليل من شأنه، وهذه كانت تحدث منذ بداية التاريخ حتى اليوم، والناقد للتاريخ، يحاول تحليل الأحداث للفصل بين ما هو حقيقة، وما هو من نسج الخيال.
والحاجب المنصور بن أبي عامر رغم ما فيه من خصال حميدة كثيرة جلها مفيد إلا أنه لم يخل من بعض المثالب التي أخذت عليه وسطرها المؤرخون، ولاسيما الذين يحاولون الإنصاف ولا يتجهون اتجاها واحداً، في نقله، كما هو حال شيخ المؤرخين ابن حيان في إنصافه، إلاّ أن فيه قسوة في نقده، وصراحة في قوله، قل أن تجدها عند غيره، لكن يظل الحاجب المنصور فريداً في كثير من إنجازاته.